الإقطاع السياسي.. نمطٌ فوضويٌّ لتفكيك الدولة واغتصاب سلطتها

آراء 2024/03/27
...







 ثامر عباس


ليست بي حاجة لإحاطة القارئ اللبيب باستشراء ظواهر أضحت فاقعة وضاجّة في واقعنا الراهن تشي طبيعتها بان مجتمعنا العراقي المتخم بالمشاكل والفائض بالإشكاليات، بات من غزارة المعطيات الغريبة والسلوكيات العجيبة، ما يستوجب على الباحثين في شتى الاختصاصات العلمية والمجالات الإنسانية ليس فقط متابعة رصدها وتحليلها كما تتبدى في وعينا وعلاقاتنا وسلوكياتنا، ومن ثم الوقوف على مصادر صيرورتها وديناميات تحولها ومآل مصيرها فحسب، وإنما لقدح زناد الفكر وشحذ أزاميل التحليل لإيجاد المفاهيم المناسبة والمصطلحات الملائمة، التي من شأنها تأطير المعاني واستخلاص الدلالات القارة فيها والمعبرة عنها. 

ومن هذا المنطلق، فقد اجتهدنا لاقتراح مصطلح (الإقطاع السياسي)، كنموذج تحليلي نصف من خلاله نمط من أنماط التضامنيات الاجتماعية والتوافقات السياسية القائمة بين مكونات المجتمع الأهلي (القبائل والطوائف) المدججة بالسلاح، على أساس (المحاصصات) الإقطاعية، التي تمخضت عن تجربة النظام السياسي لما بعد سقوط بغداد عام 2003، حيث تعكس ليس فقط ما يحتدم بين تلك الجماعات من ضراوة (التكالب) على تجاوز خطوط الصدع الفاصلة بين جغرافيات كل منها، لحيازة أكبر قدر ممكن من عناصر السيطرة السياسية والهيمنة الأيديولوجية داخل كيان المجتمع المتفكك بنيويا والمتشظي سوسيولوجيا فحسب، وإنما (لضمان) الفوز بأهم المواقع المؤثرة داخل الحقل السياسي المتمثل بسلطة (الدولة) ومؤسساتها، استنادا الى ما تتوفر عليه من قدرات عسكرية وإمكانيات اقتصادية.  وكما هو الحال في نموذج (الإقطاع الاقتصادي) الذي كان سائدا»في ربوع هذه الديار، حيث التنافس والصراع كان على أشده بين كبار (الملاك) و(الإقطاعيين) لضمان الاستحواذ على أكثر ما يمكن الحصول عليه من (الأراضي)، الزراعية التي كان استثمارها (مشاع) بين فلاحي العشائر والقبائل سابقا، والتي كان لاعتبارات (سعة) المساحة و(خصوبة) الغلة دورا أساسيا لا في حجم العوائد الاقتصادية (المالية)، التي كان يجنيها المالك - الإقطاعي فحسب، بل وكذلك في تراكم المردود الاعتباري المتمثل بمظاهر (الهيبة) و(النفوذ)، اللتين تسبغان عليه هالة من السلطان (الكاريزمي) المفتعل بين أتباعه وأشياعه، سواء أكانوا من أهل الريف أو من أهل المدينة. إذ بدلا من سعي المتنافسين لحيازة (الأرض)، التي يتمحور حولها نمط (الإقطاع الاقتصادي)، ومن ثم التصرف بعوائدها، تستحيل (الدولة) في نمط (الإقطاع السياسي) هي الهدف المركزي الذي تشرأب نحوه أطماع الأطراف السياسية المتكالبة على بلوغ مأربه وتقاسم مغانمه، كل بحسب ترتيبه من تسلسل القدرات والإمكانيات التي بحوزته وتحت تصرفه، والتي غالبا ما يكون مصدرها إقليميا أو دوليا من خارج الحدود. 

والجدير بالذكر أن هذا النمط من (الإقطاع) المقترح لا يوجد إلّا في حالة واحدة؛ تتمثل باقترانه عضويا»مع استشراء مظاهر تراجع سلطة (الدولة)، وتراخي قبضتها الرادعة، وانكفاء هيبة القانون، إزاء حالات الانفلات الأمني وطغيان الفوضى في المجتمع المضطرب والمحتقن على إيقاع الأزمات والتوترات. الأمر يعطي الإشارة للجماعات العابثة والمتربصة بالتحرك للتسلل إلى داخل الحقل السياسي للانقضاض على أهم المواقع المؤثرة في مدماك الدولة، لاغتصاب سلطتها واقتسام مؤسساتها وتوزيع أسلابها، وثم تجريدها من سيادتها والسطو على شرعيتها. قد يبدو في بعض الأحيان أن تلك الجماعات الخارجة عن القانون تنشط بموازاة سلطة (الدولة) الضعيفة، وتتجنب الإفصاح عن رغبتها في العمل خارج إطار تلك السلطة المتراخية إن لم يكن ضدها. ولكن هذا الأمر لا يعدو أن يكون ذرا للرماد في العيون لخلق الانطباع بأنها لا تزال تعمل وفقا لشروط الدولة وتحت وصايتها من جهة، وانتظار اللحظة الحاسمة التي لم يعد فيها المواطن المجرد من كل أنواع الحماية والأمان يثق بالدولة ولا يحترم قوانينها، بحيث تكون (الطائفة) و(القبيلة) و(الاثنية)، هي منقذه الوحيد وملاذه الأخير من جهة أخرى.  وأخيرا، إذا صح قول الاقتصادي العراقي المعروف (عصام الخفاجي)، الذي أشار فيه إلى أن ((تفتيت السيادة كان عنصرا مكونا لمجمل نمط الإنتاج الإقطاعي)) بمفهومه الاقتصادي، فان ما يصح أكثر هو القول ؛ ان (الإقطاع السياسي) لن يعمل على تفتيت (السيادة)، التي هي عنصر أساسي من عناصر كينونة (الدولة) فحسب، وإنما – وهنا الطامة الكبرى - سيكون بمثابة معول هدم قادر على أن يضع الدولة ذاتها تحت طائلة التشظي والتذرر إلى كانتونات – إقطاعيات متناحرة تتصارع في ما بينها على نهب البلاد واسترقاق العباد!.