آثارنا العراقية .. المسؤولية التاريخية والوطنية

آراء 2019/05/29
...

علي حسن الفواز

 

سرقة الاثار العراقية والمتاجرة بها علنا وسراً حديثٌ يحتاج الى وقفة جادة، والى مراجعة نقدية وقانونية واخلاقية، فهذه الاثار تملأ الآن المتاحف الرسمية غير الرسمية في العالم، مثلما تضج بها البيوتات الارستقراطية ومعارض الفنون واللقى، وكأن هذه الآثار هي مُلكٌ مباحٌ للتجار والسماسرة واللصوص ولجامعي التحف، وأن اهميتها لاتكمن بالاستعراض بها فقط، بل بخطورة علاقة هذه الاثار بتاريخ البشرية، وبتاريخ حضارتها الانسانية المؤسِسة، وهي قضية تحتمل الكثير من النوايا، ومن اكثرها خطورة هي نوايا عزل الاثر التاريخي بكلِّ دلالاته الاسطورية والثقافية عن سياقه في المكان العراقي،

 وبالتالي تمييع هذا السياق وتعويمه في فضاءات وثقافات وامكنة لا علاقة لها بالعراق السومري والبابلي والاشوري والأكدي، وبعلاماته العالقة بذاكرة التأسيس الاول للمدن والحضارات والثقافات
 الانسانية...
اهمال النظر في موضوع الاثار العراقية يعكس ضعفا في الاجراءات الحكومية الرسمية، ومنذ زمنٍ بعيدٍ، وتحت يافاطات شتى، منها الجهل بالتاريخ وعدم حماية المواقع الاثرية، ومنها وضع الموضوع في سياق تجاري، ومنها ضعف البنى المؤسسية المعنية بعلم الآثار، ومنها مايتعلق ببعض الاحكام الفقهية والتي تنظر للأثر القديم بوصفه شركاً، ومنها مايتعلق بضعف علاقة التاريخ بالثقافة الوطنية، وبالهوية العراقية بشكل خاص، إذ عمدت كثير من الجهات والمؤسسات والحكومات وحتى بعض الاحكام الفقهية على عزل التاريخ العراقي القديم عن التوصيف العمومي للتاريخ، وجعل المرحلة الاسلامية هي التأسيس المُعلن للتاريخ، في الوقت الذي يعرف العالم أن الحضارات الانسانية الكبرى ابتدأت مع العراق السومري، وأن الشواهد واضحة على ذلك، وموجودة في متاحف  اوروبا، والتي نُهبت من الارض العراقية عبر مراحل معينة، وتحت ظروف سياسية واستعمارية وتواطؤات 
معروفة..
 
التعريف بالأثر العراقي..
إذ كان ماجرى مؤخرا في بيروت بعد افتتاح متحف يحمل اسم(نابو) وهو اله الحكمة والكتابة في العراق القديم قد أثار هذا الحديث المفتوح والمُهمل منذ وقت طويل، فإن ماينبغي العمل عليه هو اتخاذ عدد من الاجراءات الواجبة قانونيا ودوليا، لاسيما وأن هناك قوانين دولية تمنع نهب الاثار الوطنية والمتاجرة بها، وأن علنية هذا الافتتاح يؤشر مدى الاستخفاف الذي مارسته الجهة المسؤولة عن التنظيم، والتي افتتحت متحفها بحضورٍ رسمي محلي ودولي، فضلا عن مايؤشره من ضعفٍ قارٍ، ومن تصورٍ بأنّ الجهات الرسمية العراقية سوف لن تتخذ أية اجراءات قانونية، أو حتى محاسبة مَنْ قام بهذا العمل، ومن تواطأ معهم، لاسيما بعض(الفنانين العراقيين) للأسف، وضمن حسابات قد تكون تجارية أو سياسية..
إن الدعوة الى تحشيد وطني ثقافي هو الخيار الاول، لتعميق وعي الناس بأهمية تاريخهم، وهو جهد يتطلب مشاركة سياسية ومدنية وحتى من الجهات الدينية، وبعيدا عن أية احكام تتعلق بتوصيف هذه الاثار، لأنها تنتمي الى سياق تاريخي وديني قديم، وأن الطابع الاستعادي لهذا التاريخ يكمن في جانبه الحقوقي والقانوني من جانب، وفي جانبه الثقافي والاخلاقي والهوياتي من جانب آخر، وأحسب أن التنسيق مع الجهات الدولية في الامم المتحدة، وفي سياق العلاقات بين الدول سيمكننا من مواجهة هذه( السرقات العلنية) ومن التأكيد على المرجعيات الحقوقية والثقافية والمكانية لهذه الآثار اولا، وباتجاه ابراز الاصول العراقية للحضارات الانسانية ثانيا، والضغط على الجهات الدولية والجهات المحلية لتبني ستراتيجيات ثقافية للعناية بالآثار ووضعها في سياقها الثقافي والروحي والحضاري
 ثالثا.
وإذا كان ثمة حديث يدور حول عدم قدرة الجهات المحلية على حفظ الأثر، وعلى العناية به وبصيانته وحفظه على وفق الشروط العلمية، فإن التفريط به، وبهذه الطريقة ليس حلا أيضا، فإذا كنّا نرى آثارنا المنهوبة معروضة ومحفوظة في متاحف عالمية مثل متحف برلين أو متحف اللوفر، وفي متاحف عربية في دول الخليج أو في متحف نابو مؤخر، فإن هذا يعني الحاجة الى فعل ثقافي وسياسي عالمي ومحلي لوضع الاشياء في سياقها الصحيح، لأن عزل الأثر عن مكانه، وعن مرجعياته الثقافية والتاريخية سيجعله شبيها بأية سلعة أو بضاعة تُعرَض للفرجة والمتعة.
لذا بات من المسؤولية العمل على مواجهة هذه المعطيات، وإعادة تدوير الحديث ليكون حديثا عراقيا وعملا عراقيا، لكن في سياق وجود جهود وامكانات وبرامج ومشاريع حقيقية تملك القدرة والفعل على توسيع مديات العمل المتحفي بوصفه الثقافي والتاريخي، أو بوصفه الانساني، وهو مايمكن أن يعزز المعرفة بأهمية التاريخ العراقي، وضرورة أن يعرف العراقيون أصولهم العميقة في التاريخ، وهو مايعني- ايضا- الدعوة الى الحديث عن(نفط آخر) في العراق، وهو السياحة الآثارية التي تحتاجها الشعوب الحية في سياق معرفتها بتاريخها، وفي سياقها حفظها لثرواتها ولأصولها 
ولقيمها..