الاستبدال العظيم.. العراق في عواصف المسألة الشرقية مجددا

آراء 2024/03/31
...

 جمعة عبد الله مطلك

الاستبدال العظيم مصطلح ولد حديثا لوصف درجة الهلع والفوبيا، التي اصابت نخبا أوروبية اعلامية وسياسية من خطر تهديد القيم غير الديموقراطية لاوربا بواسطة المهاجرين وغير المسيحيين. ووفق هذا التصور فإن الجاليات الاجنبية والثراء الثقافي، الذي كانت تفخر به أوروبا أصبح محل شك بل ورفض من قبل اليمين الاوربي الصاعد. فلسان حال هذا اليمين ان كل مشكلات الغرب تأتي من " الاخر " والاخر هنا هو المسلم أو المكسيكي والمسلم بالدرجة الأولى، ثم تتدرج مراتب الخطر المتصور ليشمل الملونين والسود وغيرهم.

الجانب المهم في هذا الامر ليس فقط وصف الملل والسام الذي اصاب الجمهور الاوربي من الاحزاب التقليدية وتكرار فشلها في معالجة الازمات الاقتصادية والسياسية، بل في بروز اليمين الاوربي كقوة صاعدة لدرجة بلغت حد وصفها بـ " انمحاء أوروبا القديمة ". 

بل تم وصف المرحلة بانها تصل حد التطابق بين تداعياتها وتلك الظروف التي انتجت النازية والفاشية. فتزداد الخطورة على أوروبا والعالم معها عندما ترجح الدوائر الغربية خطر تحالفات "ممكنة" بين اليمين المتطرف والتقليدي. 

الأرقام والاصوات التي ارتقى بها اليمين سلم البرلمانات والمجالس لها اكثر من مغزى الأمر، الذي يشكل مازقا حقيقيا للعالم، أجمع ففي إيطاليا والسويد وفرنسا وهولندا وبعض دول أوروبا الشرقية القديمة، بعث الناخبون فيها برسائل لما تزل تشكل اكثر من لغز للساسة الأوروبيين التقليديين، الذين وجدوا انفسهم فجاة وكأنهم كائنات سياسية تحيا بالصدفة، وتفتقر إلى برامج طموحة بل و حتى واقعية. 

تتتابع القصص حول هذا الصعود اليميني المريع في أوربا وقد تكفي واحدة منها للقياس، مثل فوز القوميين المتطرفين في السويد في اغلبية شبه مريحة عام 2022 بعد حضور هامشي في انتخابات 2010. 

اما في فرنسا فيستحق الامر الوصف بانه مخيف، فاليمين الفرنسي المتطرف " لوبان " يحصل على اغلبية مريحة في البرلمان الفرنسي زحفا على البرلمان الاوروبي ذاته. 

الليبرالية اذن تنفصل عن الديموقراطية باسوا انحدار أوربي لم يتصور سيناريوهاته الكابوسية اي من ساسة أوروبا أو مفكروها واستراتيجيوها 

وتدريجيا، يحاول اليمين احلال مفاهيم الديموقراطية القومية الخاصة بكل بلد على الليبرالية التي طبعت أوربا بطابعها وهي محل الاعتزاز والفخر دائما. 

 وبالسياق ذاته بقيت الاسئلة من دون اجابة شافية لاسباب زيارة رئيسة وزراء ايطاليا لبغداد قبل أشهر، والسيدة رائدة حرب القوى الفاشية والنازية الجديدة لحماية ما يهجسونه " الاسلمة".

احدثت هذه التطورات ما هو أكثر من الإرباك الشديد في صفوف النخبة الثقافية الاوربية. 

في وصف ما جرى وتداعياته راح بعضهم يصف ما يجري بانه " نهاية الغرب "، وهو المصطلح الذي كرسه المؤرخ الشهير ازوالد اشبينجلر.

ويصبح المصطلح كثير التردد والشيوع في الازمات الكبرى مثل الحربين العالميتين والتهديد بالسلاح النووي.  لكن رايا لافتا لتفسير عملية تحول السياسة هو ما يعتبره المفكرون والصحفيون التحول المستمر نحو "إدارة تقنية " غير الادارة المحترفة السابقة وهي الإدارة التي يتولاها و يصنعها خبراء " باردون " لا تعنيهم كثيرا الرمزيات المحركة للتاريخ ولا أي سجال فكري أو نظري أيديولوجي.

زيادة على ذلك تنظر أوروبا بعين القلق لانهيار التحالف السابق، الذي قاد أوروبا والعالم عقودا متمثلا بكتلتي اليمين الليبرالي وتيار الوسط، الذي حل محلهما ما يطلق عليه بـ" اليمين المتطرف " والتنظيمات الشعبوية بكل حمولاتها المجهولة ومرجعياتها الهائمة. 

يجيب المفكر الشهير رجيس دوبريه ان ما يحدث في الغرب يمثل أفولا لعجلة تاريخية بدأت بالدوران مع الثورة الفرنسية والبديل الجاهز الذي يخشاه دوبريه هو التحول في مفهوم السلطة، التي تتبلور أو تتجوهر حول الصراع على مغانم السلطة بدلا عن الدفاع عن القيم كما يفهم دوبريه. يركز دوبريه الذي يحظى بمكانة خاصة على ما يعتبره حدثا جوهريا يتمثل بخروج أوربا من فهمها العام للتاريخ باعتباره تحقيقا للحلم الانساني والخلاص إلى اكتساب "مخيف " لاساسيات ادارة الخوف وضبط التطورات الحاضرة بقوانين وانظمة متسرعة لا تاخذ في اعتبارها " دور أوروبا الاخلاقي ". 

في العالم "الآخر" ومنه العراق فإن هذه التطورات لا تعني سوى شيء واحد وهو الخروج عن النص في الاماكن التي تتخذها أوروبا ملعبا لها منذ المسالة الشرقية وربما قبلها حتى اليوم والكثير يعتبر الحروب الصليبية المصداق المبكر والأهم للسياسة الاوربية وفلسفتها في تصدير الازمات إلى الشرق الاسلامي.

في العراق " مثلا " فان سد المنافذ أمام الهيجان الغربي في البحث عن خلاص يتمثل كما يعرف الجميع بترصين اسس الوحدة الوطنية واللامركزية السياسية وثقافيا بالسعي إلى كتلة تاريخية قادرة على اعادة شحن طاقة الابداع والحماس لدى لعراقيين بوجه محاولات التيئيس وحصار العملية السياسية بكل السبل. 

ان التركيز العام على حقوق الانسان بعدها القاعدة في سياسات وانظمة الحقوق المدنية هو الطريق الامثل إلى سد المنافذ امام الاندفاعة الغربية المتجددة نحو الشرق المسلم والعراق تحديدا.

ولا ينبغي للمثقفين والساسة والخبراء ومن يهمهم الشان العام أن ينظروا إلى " انفجار الغرب " واعتباره قضية تخص الغرب ذاته، فذيول المسألة الشرقية، التي كانت تعني حينها تقسيم ممتلكات العثمانية لما تزل فاعلة بعناد على البقاء بالآياتها نفسها في اعادة تقاسم مناطق النفوذ وبصياغات استراتيجيه تعتمد كعادتها لغة مخاتله مصرة على البقاء بهذا العناد الذي لن ينتهي الا بحيازة الدولة والمجتمع العراقيين كمثال على الشرق المسلم لاساسيات القوة بنظام تعددي قانوني وشرعي يتنفس قوانين التاريخ ويهجس عميقا اخلاقيات المستقبل. 

بما يعني القدره على اطلاق وحضانة طاقات العراقيين المبدعة.