الاستدعاء النقدي للتاريخ: قراءة في الأصول المنسيّة

آراء 2024/04/04
...

 ثامر عباس

غالبا ما نستهجن محاولات التحيين للماضي وعمليات الاستدعاء للتاريخ، من لدن قسم من الكتاب والباحثين في الشؤون الاجتماعية والإنسانية، من منطلق كونها تسعى لتوظيف موروث الأول، واستثمار سرديات الثاني لمآرب سياسية ومكاسب اقتصادية، غالبا ما تقف خلفها وتحتمي تحت ظلها جهات حزبية متسلطة وتيارات أيديولوجية مهيمنة.

ولعل هناك من يعترض علينا بسؤال مشروع مفاده؛ ما الداعي إلى النبش في ما مضى من أحداث، وما العبرة في استدعاء فيما أدبر من وقائع؟!، لاسيما وأن كل عمليات النبش والاستدعاء كان مردودها – في الغالب الأعم - عبارة عن نكأ للجروح وإثارة للضغائن. 

هذا في حين ان جل مجتمعات العالم المعاصر تمكنت من طي صفحات ماضيها وغادرت حصون عصبياتها، لتيمم وجهها صوب معطيات الحاضر وما يزخر به من حراك وتحول وتطور من جهة، وتتطلع باتجاه توقعات المستقبل وما يضمره من نذر مقلقة، أو يبشر به من آمال عراض. 

والحقيقة التي لابد من الإقرار بها والتعاطي معها هي؛ انه ليس كل عملية استحضار للموروث التاريخي واستدعاء للمخزون المخيالي، تتضمن بالضرورة مقاصد تجييش (العصبيات) المتباغضة واستنفار (الكراهيات) المتقابلة التي غصّت بأحداثها الدامية ووقائعها المدمرة صفحات التاريخ القديم والحديث، لا بل وحتى المعاصر. وإذا ما أخذنا بنظر الاعتبار رأي فيلسوف التاريخ (هايدن وايت) الذي مضمونه ان (التاريخ ليس ما وقع ماضيا»، بل ما هو واقع في ماض مستمر في الحاضر ومتجه إلى المستقبل. فنصوص التاريخ المدون لم تقل كل ما مضى، إذ ما زال هناك مغيب ومسكوت عنه كثير في بطون التاريخ ).

فان الأمر، والحالة هذه، لا يتطلب إسدال الستار على وقائع الماضي والتعتيم على أحداث التاريخ، كما لو أنها مخلفات أسطورية وبقايا خرافية عفا عليها الزمن، أو اللجوء إلى عمليات الحذف والإضافة بما يدعم مواقفنا السياسية ويسوغ مصالحنا الاقتصادية ويعزز تصوراتنا الإيديولوجية. بقدر ما يتطلب استدعاء تلك الأحداث والوقائع لاستجلاء الحقائق المطموسة واستخلاص العبر المهملة، بعد أن يتم العمل على تفكيك عقدها ونقد مضامينها. 

وهنا لا بد من التنويه، بان المجتمعات التي تماثل المجتمع العراقي من حيث تعدد الخلفيات التاريخية وتباين المرجعيات الدينية وتنوع الأصوليات الثقافية لجماعاته السوسيولوجية ومكوناته الانثروبولوجية، لا تفتقر نخبها من السعي الدائم والمستمر لاستدعاء مواريث ماضيها واسترجاع أحداث تاريخها، لا بل أنها قد تتفنن في إيجاد الأساليب والوسائل التي من خلالها تستطيع تحقيق ذلك الاستدعاء والاسترجاع على نحو يكاد أن يكون مرضيا (نوستالجيا) في بعض الأحيان. ولكن لننتبه إلى حقيقة أن تلك المساعي والمحاولات تنطوي – في غالبيتها العظمى - على مقاصد (تعبوية) (وتحريضية) تتميز بطابعها العاطفي والشعبوي، بحيث تفضي إلى خلق حالة من الهياج السيكولوجي لدى (جمهور) أغلبه مستلب ومستقطب، سمته الأساسية الافتقار إلى الوعي التاريخي، تسهل السيطرة على إرادته والتلاعب بخياراته والتضحية بمصالحه والاستهانة بدوره، وهو الأمر الذي يضاعف الأزمات ويعمق الاحتقانات ويؤجج الكراهيات. 

والحال، لكي تكون عمليات الاسترجاع للماضي والاستدعاء للتاريخ ذات جدوى ومردود ايجابي، ليس فقط على صعيد حاضر المجتمع بمختلف مكوناته الاجتماعية وتكويناته الثقافية فحسب، وإنما على صعيد ما يضمره المستقبل من وعود مبشرة بالنسبة لتطور أجياله كذلك. 

فانه لابد لهكذا عمليات استرجاعية من التسلح بمنهجيات (النقد) الموضوعي وأساليب (التحليل) العقلاني لكل ما يمت بصلة لترسبات ذلك الماضي وتمثلات ذلك التاريخ، بحيث لا يستحيل مسعى الاستهداف للموروث إلى مجرد تصيد للأخطاء وتأشير للانحرافات التي أفرزتها التجارب والممارسات هنا أو هناك، والتي غالبا ما تفضي – في حال القراءات الاسقطاية والتصورات النمطية - إلى تحويل (النقد) المرجو للواقع إلى (جلد) للذات كما هي الحالة السائدة.