عبد الأمير المجر
بدءاً، لا بُدَّ من احترام المفاهيم وعدم ليّها قسراً تحت أي شكلٍ من الأشكال، فالاحتلال مفهومٌ يعرف الجميع فحواه مثلما أنَّ التحرير مفهومٌ معروفٌ أيضاً. ما حصل للعراق في العام 2003 هو احتلالٌ عسكريٌّ شاهده العالم كله ووصفه بالاحتلال لا غير، أما من يراه تحريراً فهذه رؤيته الخاصة وإنْ اتفق معه آخرون، لأنها لا تتصل بجوهر المفهوم،
وإنَّما تعبّر عن طبيعة تفاعل هؤلاء أو انفعالهم بالحدث وموقفهم من الخلفية التي أوصلت إليه، وهنا نكون قد دخلنا في منطقة أخرى.
في اعتقادي إنَّ ما حصل للعراق في العام 2003 يصعب اختزاله بسهولة، كونه جاء في سياق مشروع دولي كبير فرضته لعبة التوازنات بين الدول الكبرى، لا سيما بعد الحرب العالمية الثانية، ولكي لا نطيل على القارئ لا بُدَّ من القول، إن الاتحاد السوفييتي ومعسكره الكبير الذي ظهر بعد تلك الحرب، واميركا ومعسكرها المقابل الذي تجلى أثناء الحرب نفسها وبعدها ايضاً، قد اتفقا على تقاسم مناطق النفوذ في العالم لتحاشي التصادم النووي، وكان العراق والشرق الأوسط - بشكلٍ عامٍ - من حصة الاميركان ومعسكرهم (الرأسمالي) وقد حصل هذا تحديداً في اجتماع القرم العام 1945 الذي جمع قادة (الحلفاء وقتذاك) روزفلت وستالين تشرشل، حيث وضعوا فيه اللمسات الأخيرة لسيناريو تدمير دول المحور (ألمانيا النازية واليابان) وبناء عالمٍ جديدٍ مهدوا له قبل هجومهم العسكري الكبير، بكتابة ميثاق لمنظمة دولية جديدة بديلة لـ(عصبة الامم) باسم (هيأة الأمم المتحدة) .. وكانت تلك الاتفاقات بمثابة خطوطٍ حمرٍ للطرفين لا يجوز لأيٍ منهما أنْ يتجاوزها.
الذي حصل في ما بعد هو أنَّ العراق الذي باتت فيه نخب مؤثرة في الشارع بعد مرور نحو أربعة عقود على قيام الدولة الحديثة، صار توجهها العام يميل الى المعسكر الاشتراكي، وترى أنَّ وضع البلاد لن يستقيم إلاّ بتبني نهج اليسار الراديكالي وإقامة نموذج سياسي على غرار النموذج السوفييتي أو قريبٍ منه، وهو ما حصل بعد انقلاب العام 1958 الذي تحول الى ثورة عارمة غيّرت واقع العراق على مختلف المستويات، ووجد العراق نفسه منخرطاً بذلك المعسكر لو بشكلٍ غير مباشر، مع أنَّ السوفييت أنفسهم وبقدر ما يتعلق الأمر بهم، منعوا الحزب الشيوعي العراقي من القيام بأية محاولة للإمساك بالسلطة، لأنَّ ذلك يجعلهم في مواجهة مباشرة مع الاميركان.. وعلى الرغم من ان التيار القومي بشكل عام واليسار منه بشكل خاص، له توجهات معادية للغرب لكنه صار بالنسبة للغرب بمثابة الحل الواقعي الذي يمنع تمدد الشيوعية في هذه المنطقة وبالإمكان التعايش معه والعمل في الوقت نفسه على تحييده ستراتيجياً لكي لا يتجاوز المسموح به، كون العراق البلد العربي الوحيد الذي يجمع بين الثروتين الكفيلتين بنهوض اية دولة وبقوة، وهما الثروة البشرية والمادية، وقد بدأت اللعبة مع العراق من خلال العمل على جعل كردستان ملتهبة بشكل مستمر ومصدر استنزاف دائم للدولة العراقية (المتمردة) ولم تجد جميع المحاولات ومنذ اندلاع الأزمة في العام 1961 الى تهدئة الاوضاع هناك، ولعل مثل هذا الكلام يبدو محرجاً لكنه أيضاً بات اليوم معروفاً.
التطورات الإقليمية التي حصلت نهاية السبعينيات، لا يمكن إغفال تأثيرها المباشر في الميدان العراقي، فمهما كانت الأسباب المباشرة لما حصل من حروبٍ وغيرها منذ بداية الثمانينيات فإنها تبقى مصطنعة بدهاء وفي سياق تغذية لعبة إضعاف العراق الدولة، وان تفاقم الاحداث وتداعياتها الكبيرة المؤلمة في ما بعد صنعت رأياً عامَّاً واسعاً يرى أنَّ البلاد باتت أمام المجهول، لا سيما بعد أحداث العام 1990 والحرب والحصار الطويل الذي أريد منه تهيئة الأجواء النفسية لدى العراقيين لتقبل حدثٍ كبيرٍ يتمثل باحتلال بلدهم، تمهيداً لتغيير الخارطة الجيوسياسية للمنطقة كلها، لا سيما أنَّ الاحتلال سيقترن بانتهاء الحصار والجوع ويجعل البلاد منفتحة على عالمٍ مختلفٍ عن عالم الحرب الباردة وصراع القطبين، بعد انفراد المعسكر الغربي بزعامة اميركا بقيادة العالم وقتذاك، من هذه الوقائع التي سلّم بها كثيرون جاء شعار (تحرير العراق) ليكون مظلة احتمى بها كثيرون بمن فيهم الأعداء التقليديون لأميركا، من العقائديين العراقيين.. لقد تبين لاحقاً ان الاحتلال يمثّل محطة في طريق ستراتيجي طويل يبدأ بتقسيم العراق الى ثلاث كيانات عرقية وطائفية، ومن ثم تقسيم المنطقة على هذا الاساس او اقامة ما يسمى ب(الشرق الاوسط الجديد)، وسيتجلى هذا في ما عرف ب( الربيع العربي) الذي كان امتدادا لإحتلال العراق او مكملا له، لكن هذا المشروع او تداعياته المدمرة التي تسببت بخسائر مروعة بالأرواح والممتلكات سقط في نهاية عهد الرئيس الاميركي اوباما، وجعل مفهوم (تحرير دول المنطقة) الشعار الذي تم رفعه ايضا قبل اكثر من عقد من الزمن، موضع سخرية وتندر بعد ان تغنى به كثيرون قبل انكشاف اللعبة.. وفي العموم أثبت العراقيون أنهم أكبر من أنْ يحررهم أحدٌ من أي نظامٍ سياسي إنْ كانوا رافضين له أو لمساره، لأنهم قادرون على تغييره.. وأنَّ أهم ما ينبغي أنْ نعمل عليه بعد التجربة القاسية والمريرة التي عشناها هو أنْ نتعاملَ مع السياسة بواقعية بعيداً عن أي تهويمات عقائدية أو سياسية، لأنَّ السياسة هي فن الممكن، لا سيما أنَّ عالم اليوم هو عالم البرامج وليس عالم العقائد وعالم التعدد وليس عالم الأنظمة الشموليَّة.