منهجيَّة النقد الموضوعي عند محمد باقر الصدر

آراء 2024/04/08
...

 حسن الكعبي 


في كتابه الإنسان المعاصر والمشكلة الاجتماعيَّة مختصر كتاب فلسفتنا والحلقة الأولى ضمن مشروع المدرسة الإسلامية ينطلق السيد الصدر في صياغته لبلورة محور الكتاب من مفهوم النظام الاجتماعي الذي تضمنه الفصل الأول، والذي يتابعه في سياق تطوراته التاريخية، كونه مفهوماً فاعلاً في تدشين النسق الإيديولوجي والحاضن لديمومته ضمن السياقات الاجتماعية.

 لذلك فإنه يتوجه بالبحث المتقصي لهذه الموضوعة المهمة التي يتمحور حولها مجمل أفكار الكتاب، نتاج أهميتها من جهة، ومن جهة لأنها لم تحظ بالبحث الكافي في كتاب (فلسفتنا) وتكمن أهمية هذه الموضوعة نتاج امتلاكها فاعلية التأثير في مجمل التيارات الفكرية في التاريخ الإنساني في سياق تطوراتها في العصر الحديث. 

 ويتوقف السيد الصدر عند أربعة من هذه التيارات نظراً لفاعليتها وإثارتها للإشكاليات الفكرية المعاصرة ولكون بعض هذه التيارات استطاع أن يمتلك قاعدته التجذرية ضمن السياقات الاجتماعية والثقافية والمقصود بهذه التيارات (الرأسمالية الديمقراطية والماركسية الاشتراكية والشيوعية، والنظام الإسلامي).

 وعلى غير عادته التي درج عليها في التعاطي مع هذه الأفكار في كتب أخرى، فإنَّ الصدر لم يتوسل في كتابه هذا بالبراهين والأدلة التي يغلب عليها الطابع الفلسفي والمنطقي, بل أنَّ الميل المدرسي التبسيطي كان هو السمة الغالبة على الكتاب وهو ما تشرعنه حاجة الصدر لإشراك القارئ العادي في فاعلية القراءة ومقاربة الأفكار.

 يتعرض السيد الصدر في نقده للأفكار من منطلق المنهجية المقارنة وتغليب الموضوعية بعيداً عن التحيزات الإيديولوجية والمهيمن العصابي، ويغلب على تدخله في نقد وفحص الأفكار طابع ترشيدي يوضح للقارئ ما هو غامض في الأفكار السائدة.

 وانطلاقاً من منهجيته في نقد الأفكار يتعرض الصدر لمنظومتين فكريتين حظيتا بالاهتمام الواسع في العالم الحديث (وهما الرأسمالية والماركسية) دون أن يتوسع مع فكرة الشيوعية المتخارجة من عدة النظرية الماركسية لكون الفكرة وهي الغاية التي تسعى الماركسية إلى تحقيقها، لم تكتسب فعاليتها وظلت مجرد فكرة تنتمي إلى مجال الـ(يوتوبيا) كفكرة مثالية تبشيرية تطمح إليها 

الماركسية.

 انطلاقاً من ذلك فإنَّ الصدر يتعرض بالنقد للنظامين (الرأسمالي والاشتراكي الماركسي). 

وفي مواجهاته للنظام الرأسمالي الذي انبثق بعد الإطاحة بالنظم السياسية، وانهيار الهيمنة الكنسية وبعد تقويض علائق الإنتاج الإقطاعي، يكتفي بنقد مفاهيم القيمة كالحرية الفردية والسياسية والاقتصادية في النظام الرأسمالي، حيث يرى السيد الصدر أنَّ قيم الإنتاج الرأسمالي قائمة على أساس النفعية البراغماتية، الأمر الذي أدى لتحكم الأقلية بالأكثرية، وأدى ذلك إلى تكريس المآسي الإنسانية التي سادت الحياة الاجتماعية.

وقد كان لهذا التغليب الفردي والنفعية الأثر الفاعل في نشوء النظام الإمبريالي المتطور عن الفكر الرأسمالي، كما أنَّ فائض الإنتاج الذي لم يطرح لمواطني الدولة الرأسمالية كان وراء تفكير الرأسمالية في تكريس قيم الاستهلاك وتعميمها عالمياً ومن ثمة بسط الهيمنة عليه وعلى الرغم من مادية النظام الرأسمالي فإنَّ الصدر اكتفى بالاستعراض السريع لأهم مرتكزاته الارتجالية، لكون الرأسمالية- برأيه- لم ترتكز على نظرية فلسفية وكان وراء صياغة أفكارها الارتجال والطموح الشرس في الاستحواذ وتعميم الهيمنة، على الخلاف من ضدها الماركسي الذي يرى أنه قائم على مرتكزات نظرية متطورة عن المعطيات التجريبية ولذلك فإنها اكتسبت طابعها الحسي المادي، ويحيل قارئه بصدد ذلك إلى كتاب (فلسفتنا)، حيث يتابع نشوء الفكر الماركسي متابعة علمية منذ ولادته بالمزامنة مع فلسفة الشك وعودتها في ظل روح التشاؤم التي سادت مطلع القرن بعد انهيار الكنيسة وسيادة التيارات التي آمنت بالعلم والتجريب في الحقول العلمية وانبثاق الفهم المادي للتاريخ الذي أرسى دعائمه- هيجل- عبر منطوقه الجدلي الديالكتيكي.

لكنَّ السيد الصدر يقتصر في قراءته لمنظومة الفكر الماركسي على مفاهيم العدالة الاجتماعية والمفاهيم الاشتراكية المشاعية، إذ يرى أنَّ منظري الاشتراكية كانوا جادين في محاولاتهم لتنميط هذه المفاهيم، لكنهم كما يرى تجاوزوا اعتبارات الطبيعة البيولوجية للذات الإنسانية المجبولة على حب الانا التي تمانع مثل هكذا مثالية متجاوزة للواقع.

 ويرى أنَّ مفهوم الضمان الاجتماعي في الماركسية يغاير في غاياته وأسسه مفهوم الضمان الاجتماعي في الإسلام، إذ إنَّ الضمان الاجتماعي فيه ما هو من وظيفة الدولة والفرد معاً وفي غياب الدولة فإنَّ الضمان يظل سارياً ضمن مبدأ التكافل الاجتماعي الذي يضطلع به الفرد، في حين أنَّ مفهوم الضمان في الفكر الماركسي هو من وظيفة الدولة ويتنزل للفرد تبعاً لفاعليته وعضويته في الحزب وفي سياق فاعليته في الصراع القائم بين (البروليتاريا والبرجوازية).

ويخلص في بحثه في ضوء ما تم التوصل إليه من عرض الأفكار واشتمالاتها القيمية إلى عقد المقارنة في ما بينها وبين المرتكزات القيمية في المنظومة الإسلامية ويذهب إلى أنها تشتمل على نظرية متكاملة وأكثر مواءمة للواقع على الرغم من احتوائها التعاليم المثالية إلا أنها تعد العقل الفيصل في استيلاد الأحكام دون إهمال الجانب المثالي كجانب مؤثر وفاعل في تدشين المفاهيم الإنسانية الكبرى، وتجد هذه الخاصية الإنسانية موطناً- برأيه- في الآية الكريمة «ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة».