عواطف مدلول
أكثر شيء كان يستفزها ويسبب لها الضجر والتأفف لدرجة الشعور بالألم في المرحلة الابتدائيَّة بالمدرسة، إشاعة موضوع أن خزان الماء (التانكي) غير صحي كونه ملوثاً بالقذارة والأوساخ، لذا لا يصلح للاستخدام البشري، لا سيما بعد انتشار خبر أن قطة ميتة فيه منذ مدة طويلة ولم ينظف منذ حينها، على إثر ذلك غالباً ما أصبح يصيبها الغثيان والاشمئزاز عند سماع تلك الرواية.
وتبقى تصارع العطش وتقاومه حتى العودة للبيت، وما انْ صارحت أسرتها بهذه الحال، صاروا يجهزون لها الزمزميَّة أو (المطارية) ويضعونها في حقيبتها مع تحذيرات شديدة اللهجة من اللجوء لاستخدام الحنفيَّة وكذلك دورة المياه خلال الدوام محاولة تحمُّل ساعاته، خوفاً عليها من الأمراض الوبائيَّة التي قد تنقل لها من ماء (التانكي) لأنَّه مصدر الجراثيم والميكروبات.
العجيب في الأمر، أنَّها كلما ذهبت الى مرحلة جديدة بالدراسة تحكى أمامها القصة ذاتها، حتى في المدارس الأخرى التي انتقلت إليها بالمرحلتين المتوسطة والإعداديَّة، فعلقت بذاكرتها بحيث خلفت لديها نظرة خوفٍ وهلعٍ وردة فعل يشوبها قلقٌ مفرط، مصحوباً بخيالات غير معقولة، إذ إنَّ أفكاراً سلبيَّة أخذت تغزو عقلها، جعلتها تمتنع عن استعمال الحمام في أي مكانٍ خارج بيت أهلها، وإذا اضطرت لذلك، فإنَّها بعد رجوعها تطهر جسمها وملابسها بالغسل واعتماد المعقمات بشكلٍ دقيق.
بقيت على هذه الحال لسنواتٍ حتى بالفترة التي أعقبت تخرجها في الجامعة وبعد اقتحامها مجال العمل، ورغم استخدامها مؤخراً لعبوات المياه المعدنيَّة لغرض الشرب، انتشرت تلك الشائعة مجدداً عن خزان الدائرة التي تؤدي وظيفتها فيها.
الطريف بالموضوع أنَّها باتت تتعامل معها باستخفافٍ وتهاونٍ فقد ولِدَ لديها شكٌّ كبيرٌ بمدى مصداقيتها وملل من تكرار سماعها في كل الأزمنة والأمكنة التي عاشت بها، فعقلها لم يعد يستوعب ذلك الأمر إطلاقاً.
ولكي تخصم الحوار الدائم حول هذا الموضوع بداخلها وتؤكد بأنَّه مجرد كذبة، قررت الحديث مع زملائها عن معاناتها بخصوصه، إذ إنَّ تلك الحكاية تلاحقها بشكلٍ يثير العجب، تفاجأت بأنهم اعترضوا على اعتقادها بعدم صحتها ولم تنل تعاطفهم وتضامنهم معها، على العكس فقد أعلنوا تصديقهم وإيمانهم بحقيقة هذه القصة وإنْ لم تكن أمامهم هناك أدلَّة واضحة ومكشوفة تثبت ذلك، لذا طلبت من مديرها السماح لها باصطحاب أحد العمال المسؤولين عن النظافة بالمؤسسة والاستعانة به لفحص خزان الماء تحت إشرافها، ورغم سخريَّة بعض الزملاء من إصرارها لتتبع تلك القضية، صعدت للطابق الأعلى (السطح) في بناية الدائرة الذي وضع فيه الخزان، فوجدت المكان نظيفاً جداً ويكاد يكون خالياً من الغبار والأتربة، ولا يشكو الإهمال كما تصورت بعد سماعها لأقوال زملائها.
ومع أنَّ الشاب الذي كان واجبه الاهتمام بنظافة الدائرة أوضح ذلك أكثر من مرة، مدافعاً عن نفسه وعمله الذي لا يتقاعس أو يتكاسل عنه، لكنه كان لا يثق الجميع بكلامه، ويبدو أنَّ الكل متفقٌ على قصة القطة بدون مشاهدة الواقع، فعادت لهم برسالة اطمئنان حاسمة وهي تردد بابتسامة عريضة (لقد حلت العقدة)، مبينة أنَّ الماء في داخل الخزان يتميز بنقاوته فهو غير راكد، وبحالة تدوير وجريان اعتيادي لعدم نمو أي نوعٍ من العفن أو الطحالب أو أي شيء يبعث على التقزز منه.
ويعدُّ آمناً للاستعمال في غسل الأيادي والأواني وأكواب الشرب، لا ينقصه سوى إضافة قطرات أو أقراصٍ من الكلور، لضمان التخلص من أي رواسب ضارة والحماية من خطورتها لو وجدت.
الصمت والخجل أعقبا نوبات الضحك الهستيري المتبادل التي أصابت زملاءها قبل بضع دقائق، وبوقتٍ قصيرٍ تمكنت من تحويل أدمغتهم العنيدة المشوشة التي اعتادت ألا تعمل بجدٍ ولا تجتهد في اكتشاف الحقائق، إلا عندما تخوض بالأحاديث التافهة السطحيَّة وتضيع ساعاتها بتناقل الأخبار الوهميَّة غير الدقيقة من دون بحثٍ واستقصاء عن ماهيتها، ولقنتهم درساً كان من الصعب عليهم تعلمه لولا إقدامها على تلك الخطوة وإنْ جاءت متأخرة، لكنَّ نتائجها إيجابيَّة بالنسبة لها، فقد أسعدتها حينما نبهتها بألا تمنح ثقتها العمياء الزائدة لكل ما يشاع ويقال إذا لم تشاهده فعلاً بأم عينيها.