حماية المال العام

آراء 2024/04/14
...

 رزاق عداي

إن الشعوب أو البلدان عندما تريد ان تنهض أو أن تضع اقدامها على سكة التقدم، فهذا مكفول ومحكوم بمدى ارتباط أو انتماء الشريحة الحاكمة وصدق توجهاتها وجدية ونزاهة التنفيذ من قبلها، بغض النظر عن حجم هذه البلدان وتوفر مواردها الضرورية للبناء وتجربة سنغافورة وكوريا الجنوبية الفقيرتين في خوض النهوض والتحديث ابان عقد الستينيات من القرن الماضي خير مثال وانموذج في هذا 

المجال

عندما يستعرض المؤرخون تاريخ الحكومات العراقية منذ تأسيس الدولة العراقية في عام 1921، يحضر دائماً اسم - ساسون حسقيل - وزير المالية في أول تشكيل وزاري، الذي شغل المنصب طيلة سنوات العشرينيات لعدة مرات، ويكاد يكون المؤسس الاول للنظام المالي في العراق، ومن ضمن تأصيلاته المالية الاجرائية للماليةالعامة، الميزانية العامة للدولة، ونظام الضرائب، والحسابات الختامية، ومجمل القوانين الهيكلية للمالية العامة، بالاضافة إلى ذلك كان مفاوضا صعب المراس مع شركة النفط البريطانية،  ويقال انه لم يتذمر ويمتعض عندما يسمع الاقاويل بشأن بخله المالي العام، لأنه كان يرغب أن يبدأ ببداية صحيحة وصارمة، و لم يدر بخلده ان ياتي اليوم، وبعد قرن من الزمان ان يصبح المال العراقي العام بلا حماية ولا رقيب.

ورغم ان المقارنة هنا غير واردة بين واقعين يفرقهما امتداد زمني يزيد على القرن، ولكن ما يمكن استنتاجه ان الشعوب أو البلدان عندما تريد ان تنهض أو ان تضع اقدامها على سكة التقدم، فهذا مكفول ومحكوم بمدى ارتباط أو انتماء الشريحة الحاكمة وصدق توجهاتها وجدية ونزاهة التنفيذ من قبلها، بغض النظر عن حجم هذه البلدان وتوفر مواردها الضرورية للبناء، وتجربة سنغافورة وكوريا الجنوبية الفقيرتين في خوض النهوض والتحديث ابان عقد الستينيات من القرن الماضي خير مثال وانموذج في هذا 

المجال. الحافز الاول المساعد في هدر الاموال العراقية بعد 2003 هو غياب الحسابات الختامية، وكما يظهر وكانه اجراء مقصود ومبيت رغم المطالبات المستمرة في ضرورة حضوره كآلية حسابية ضابطة بين الداخل والخارج من الموازنة السنوية، فمبيعات الصادرات النفطية العراقية منذ الاحتلال وحتى السنة الاخيرة هي اكثر من ترليون دولار، بحسب وزير نفط عراقي أسبق، الذي اعتمد على الارقام الرسمية السنوية لقيمة الريع النفطي، فكيف تم انفاق ما يزيد على ترليون دولار ؟، والبلاد تواجه انقطاعات مستمرة للكهرباء، وتخلفا حادا في التعليم والصحة وجميع الخدمات الاخرى، وزيادة في الفقر والهجرة، ناهيك عن الارهاب، وبحسب وزير مالية أسبق، واصفاً الحالة المأساوية للعراق (حيث تعمل شبكات ورجال اعمال وسياسين وموظفي دولة فاسدين، في ظل سيطرة تامة على قطاعات كاملة من الاقتصاد، وسحب مليارات من الخزينة العامة) صورة كارثية قاتمة لواقع سياسي - اقتصادي، تجسد حالة النهب والهدر في اقصى مستوياته، محمية من قبل احزاب كبيرة وحصانات برلمانية وحتى قوى اجنبية، تواصلا مع اخطبوط هائل من الفساد في كل قطاعات الدولة، اخطر ما في الهدر المالي الكبير هو شرعنته كما جاء في المادة -16- من الموازنة الاخيرة الثلاثية للاعوام 2023 - 2024 – 2025، التي تنص ان على وزارة المالية اطفاء السلف الحكومية لسنوات طويلة بعد 2003، بذريعة ان الاموال بين اطراف حكومية فقط وليست لافراد، متجاهلين أبواب صرف هذه السلف في ظل فساد كبير المدرك أن لا متابعة، ولا حسابات ختامية في نهاية المطاف، فالمبالغ الممنوحة كسلف كبيرة جداً وتتجاوز المئة مليار دولار، ولهذا جرى اسدال الستار عليه من خلال الموازنة دفعا للفضيحة المالية المدوية، هناك موازنات مالية ضائعة تماما، التي لم يعرف عن اتجاهات اموالها مع ان العراق كان في تلك السنه يمر بوفرة مالية بفضل ارتفاع أسعار النفط بشكل استثنائي، وتمكنت بعض الجهات الرسمية من لغمطة الموضوع تحت يافطة أن البلاد كانت تمر بظروف خاصة للاشارة إلى الحرب على داعش، وهناك قصص وحكايات عديدة للهدر تتباين مابين الكوميدي منها والمأساوي ينشغل بها العراقيون لفترة ولكن سرعان ما ينسون هذه التي اصبحت قديمة لاخرى احدث من الاولى، كقضية سرقة القرن ومصرف بوابة عشتار والنفط المهرب بكميات مذهلة، وثم الاستيلاء على عقارات الدولة، ومع ذلك فما يكشف من عمليات الهدر يفوق ما يعلن عنه في الصحافة والاعلام والتقارير الرسمية، هناك أموال كبيرة غادرت العراق ويصعب اعادتها، فالإفلات من العقاب هو السمة السائدة في التعامل الحزبي والسياسي مع موارد الدولة، كون الاحزاب تسيطر على كل شيء، وتحولت معظم عمليات السرقة للمال العراقي عادة حزبية، والأدهى من كل شئ ان الاحزاب التقليدية باتت تعتبر ان نهب اموال الدولة العراقية يقع ضمن الحصص والاستحقاقات الانتخابية والسياسية، اموال مكشوفة بلا حماية ولا رقيب وبدن حساب.