التفكير عراقياً

آراء 2024/04/22
...

 ابراهيم العبادي


تنشط في بغداد مراكز دراسات وأبحاث ترصد وتحلل الشخصية العراقية وسلوكها العام والسلوك السياسي بنحو أخص، يتحدث الدارسون والباحثون عن مجموعة من العوامل، التي يرونها مؤثرة في صناع المواقف والسياسات.

مجمل هذه العوامل تشكل في نسيجها جانبا من جوانب الشخصية العراقية وتأثراتها بالأحداث والازمنة والمتغيرات والبيئة، سواء في إنجازها أو عدمه، أو في توترها وقلقها، أو تهورها وجموحها، أو تأنيها وحكمتها، أو في غضبها وانفعالها واحتجاجاتها، وفي انصياعها واذعانها، أو في جرحها النرجسي وعقلية الضحية عند بعض فئاتها.

الشخصية العراقية موضع دراسة اذن، والامر ليس جديدا، فقد كانت ثمة اشارات تتحدث عن العراقيين ومزاجهم (الحار) ومواقفهم الحادة، وسرعة تقلب احوالهم بين الرفض والقبول، والرضا والسخط، منذ العصر الاسلامي، ثم أعيد فتح الموضوع مع ريادة الرواد لهذا النوع من التشريح والتفكيك والدراسات المعمقة ذات المنحى السيكولوجي والاجتماعي.

ثمة من يسأل ما الداعي إلى البحث في جذور ومكونات ومقومات وسمات الشخصية العراقية؟ لماذا تبدو هذه الدراسات كما لو انها تنبش في العيوب وتسعى لتظهير الجانب السلبي؟ بل إن السؤال الجوهري كان ولا يزال عن المشروعية العلمية لاختزال الصورة السيكولوجية العراقية المتنوعة، بعنوان واحد هو الشخصية العراقية، فهذا الاختزال يهمل التنوع الاقوامي والمناطقي ويجمع العراقيين في هوية نفسية واحدة ذات ملامح متطابقة أو سمات وعناصر مشتركة، وهو ما يتعارض مع المنهجية العلمية الصارمة كما يقول الاختصاصيون.

بيد أن الحديث عن الشخصية القومية أو الوطنية، لا يزال يمتلك دافعا ومحركا بحثيا في الدراسات الاجتماعية، ربما لغرض التصنيف والتمييز، الذي يكون اسهل في التوصيف عندما يقال هذه شخصية عراقية بالمواصفات المحددة، وتلك شخصية مصرية، وأخرى ايرانية أو تركية أو يابانية. ولذا سيستمر الحديث وفق أسلوب التأمل والملاحظة والانطباع وقراءة الارشيف الشخصي عند طيف من الباحثين، حتى لو تعرض اسلوبهم للنقد العلمي الصارم من اتباع منهج جمع البيانات عبر المقابلات والاستبيانات، وبعد المعايشة الطويلة والتسجيل الشامل لكل حركات افراد الجماعة أو المجتمع.

في الندوة العلمية التي اقامتها الجمعية العراقية لعلم النفس السياسي في قاعة اكاديمية بغداد للعلوم الانسانية يوم 19/4، تناوب الباحثون على نقد منهج مقاربة الشخصية العراقية في مساراته السيكولوجية والانثروبولوجية والثقافية، لاول مرة يتم نقد النماذج الارشادية التي اعاقت بحسب الباحثين حرية البحث في الوصول إلى نتائج مفتوحة غير مقيدة، ولاول مرة ينقد منهج التعميم المتبني على عينات محدودة، وتنتهي إلى استنتاج عام. 

تبدو هذه المحاولات النقدية مبشرة في تحريك الدراسات الانسانية (النفس، الانثروبولوجيا، الاجتماع، السياسة ) وريادتها لمساحات معتمة لم يصلها نور البحث الجريء الكاسر لتابوات كثيرة. يقارن بعض المهتمين بين الدور الذي يقوم به بعض الباحثين في مجالات العلوم الانسانية في ايران وتركيا مثلا قياسا بما يجري في بلدنا، ساهم الاستبداد والانغلاق والشمولية في تقويض مسارات البحث التي لاتنسجم مع رؤية السلطة، وسادت ثقافة السير بعيدا عن إثارة انتباه السلطات ونقمتها، وصار هذا العرف قيدا دائما يتحاشى فيه الاكاديميون الدخول في صراعات مع الادارات التي اتقنت هي الاخرى مهمة مسايرة من بيدهم تحديد الممنوعات والمسموحات، لذلك ينتهي المراقبون عن بعد لحال الدراسات الانسانية عموما إلى القول بانها لم تخرج بعد من جلباب ممنوعات السلطات، سلطة المجتمع، وسلطة الثقافة، وسلطة الدين، وسلطة السياسة، وسلطة المؤسسة الاكاديمية، ومالم يتم اطلاق حرية البحث والتقصي المنهجي القائم على السبر والصبر والنفس الطويل، فان الدراسات والابحاث ستظل مبتسرة وقاصرة. لعل من اهم واخطر هذه الدراسات مايتعلق بالشخصية الاجتماعية العراقية، وصورتها الذاتية كما تدركها هي بنفسها وصورتها عند الاخر، فكل دراسة من هذا النمط مهددة بالدخول في شراك التعميم غير العلمي أو كما اسمته جمعية علم النفس السياسي، السجال بين حدي التعظيم والتبخيس، فالمجادلات ما بين فريقي التعظيم والتبخيس، تعكس هي الاخرى الرؤى أو الوظائف التي يبتغيها كل طرف وتثوي في ثنايا خطابه، وكل فريق يكشف عن رؤيته في مقاربة الشخصية العراقية، بين باحث عن جذور التردي والانحطاط والتكاسل والقدرية والتشاؤم والاحباط والنرجسية وعقلية الضحية، وبين من يقرأ ما يعرف بالنصف المملوء من الكأس، فيرى الثبات والتحمل والصبر والذكاء وقابلية الابداع، كل ذلك مشروط بالبيئة السياسية الملائمة، بالعلاقة المنتجة بين السلطة والمجتمعة، في علاقات الإنتاج السليمة والمحفزات والتعزيزات، في توفر القيادة الكارزمية القادرة على شد المجتمع إلى سردية جديدة، سردية النهوض والاستنارة والتعلم من التجارب والاخطاء، ونقد الذات بطريقة ملائمة لا تكسر الشخصية ولا تزيدها تشاؤما واحباطا في زمن يسود فيه التظلم والشكوى والانكسار واللا إبالية والاهمال والعجز واليأس.

حراكات مراكز الدراسات خطوات مهمة على طريق استئناف العمل المجدي والمقاربات المنشطة للذهن والعقل والارواح المتعبة المحبطة. قبل ندوة جمعية علم النفس السياسي كان لمركز رواق للسياسات العامة ندوة عن (العراقي بين المقاهي والقصور والمآذن )، اقترنت الندوتان زمانيا مع ملتقى السليمانية السنوي، الذي يتناول قضايا العراق والمنطقة وصلتهما بما يجري في العالم.

القاسم المشترك بين جميع هذه الحراكات والنشاطات والمساهمات، هو التفكير الجريء الصريح بصوت عال عن مشكلات بلادنا، عن مساهمات الباحثين والمفكرين، عن دور النخب التي خفت صوتها في قبال صعود موجة الشعبوية والاعلام الاثاري، وعن التفكير خارج صناديق العلب الجاهزة. ثمة أمل تبشر به هذه الجهود، أمل بالخروج من حالة التسطيح إلى الاستنارة، من الايديولوجيا إلى الابستمولوجيا كما يقول ذوو الشأن المعرفي، ثمة ما يستحق أن يقال، وثمة ما يستحق أن يسمع ويقرأ ويناقش وينقد، وثمة عقول متوقدة لا تزال تفكر رغم ما يبدو من انحطاط وانسداد.