حصتي من النفط

آراء 2024/04/23
...

 د. صادق كاظم

هذه العبارة رددها احد كبار التجار في البلاد، عندما اكتشفت الجهات الرقابية في وزارة العمل والشؤون الاجتماعية، قيامه بتزوير مستمسكاته وإخفاء ثرائه، من اجل الحصول على راتب الرعاية الاجتماعية البسيط، الذي لا يتجاوز المئة وخمسين الف دينار، معتبرا نفسه رجلا فقيرا مستحقا لهذه الاعانة، رغم كونه غنيا باستطاعته ان يعيل شهريا اكثر من 100 اسرة فقيرة من ايراداته وارباحه.

هذا التصريح الاحتيالي هو جزء من موروث بدوي، ما زال ضاربا بعمق في داخل شخصية الفرد العراقي، التي لم تتح له السنوات الكافية ولا الأغطية الزمنية والحضارية من أجل تمتين الثقافة والتمدن في أروقة فضاءات الثقافة الفردية والجماعية للمواطنين، لكي يتعلموا سلوكيات تحب الوطن بعمق وصدق، وتحرص على المال العام وتعف عن مد أيديها إلى ما لا يخصها، رغم ازدحام أدبياتنا بالكثير من الصور التاريخية والوعظية المشرقة، التي تتحدث عن الامانة ونكران الذات والتضحية من أجل الآخرين، إضافة إلى مساعدة المحتاجين والمعوزين.
ان مفهوم التخاصم مع الدولة ومؤسساتها موروث قديم يعود إلى حقبة الاحتلال العثماني البغيض، الذي يعتبر من أسوأ الفترات التاريخية التي مرت بها البلاد من حيث حجم الفساد والظلم وسوء الادارة، اذ كانت السلطة العثمانية لا تهتم بتطوير المدن ونشر التعليم والثقافة في ربوع البلاد، وجعل الناس مكتفين معيشيا وماديا، بل تركتها تعاني من الاهمال والفقر والتخلف وهو ما انعكس سلبا على نظرة المواطنين لاحقا إلى الدولة ومؤسساتها، لا سيما وان الانظمة شبه الوطنية الحاكمة لاحقا عادت إلى استنساخ التجارب العثمانية السابقة في الإدارة والحكم مع تأطيرها برداء وطني، مع وجود الفوارق بينها في انماط وطريقة الحكم وادارة السلطة.
كل هذه السرديات والنكبات لم تترك فسحات زمنية كافية لترويض السلوكيات العنفية لدى المجتمع، من خلال البناء الصحيح للمجتمعات عبر اشاعة مفاهيم التمدن والحضارة والتعليم والثقافة، وتأصيل وتجذير الروح الوطنية.
صحيح إن البلاد لم تخل من نهضات ثقافية وسلوكية، ما زالت تعتبر الاجمل والاكثر بهاءا وتألقا في التاريخ الحديث للبلاد، لكنه لم يتح لها ان تستمر مع وصول النظام البعثي الشمولي إلى السلطة، الذي اجهز على كل معالم الثقافة والتحضر في البلاد، حين اسهم من خلال حروبه ومغامراته في اضعاف الطبقة المتوسطة وتآكلها، والتي تعتبر النواة والدعامة الاساسية لاي مشروع نهضوي حضاري يرافقه صعود لافت لطبقات طفيلية، استثمرت ظروف الحصار للصعود وتعميم ثقافتها وسلوكياتها، والتي استمرت من خلال توافر الظروف نفسها والبيئات المشجعةل وما تزال إلى يومنا هذا.
ما عبر عنه هذا التاجر هو انعكاس لثقافة نفسية ما زالت تستبطن العداء للنظام والقانون وترفض الالتزام به، وتستسيغ أن يكون لها الحق في أن تسرق المال العام من الدولة، رغم كونها لا تستحقه ضمن مفاهيم تعكس ثقافة بدائية، رافضة للالتزام بحقوق الدولة وواجبات المواطنة.
هذه النماذج السيئة التي تنتشر اليوم وباعداد كبيرة تستمد سلوكياتها من نزعة التقليد ومجاراة الآخرين، اضافة إلى عموميات الفساد الاداري والمالي الذي تعاني منه الدولة، وبشكل هائل وضخم مع تورط مافيات حزبية وسياسية في ادارة وتنظيم عمليات النهب المنظم لاموال الدولة، كل ذلك شكل ارضية مثالية مهيأة امام تمدد ثقافات باتت لا تجد حرجا في ان تجد لنفسها مبررات، للتطاول على المال العام والتحايل في الحصول عليه من خلال صور وأشكال شتى.
من دون شك فإن بنية تحتية تعليمية متقدمة ومتطورة ممدودة بمناهج وسلوكيات اخلاقية رفيعة ومنضبطة مع وجود قانون يخضع له المسؤول الكبير قبل الفرد البسيط، يمكن أن يؤسس ويرمم لنهج أخلاقي وسلوكي رفيع، يحصن المجتمع العراقي ويحميه من الفساد وتداعياته الاخلاقية والسلوكية الخطيرة على مستقبل البلاد وشعبها.