عن القراءة و{جمهورها» الجديد

آراء 2024/04/24
...

 رعد أطياف

من أشهر التقليعات التي انتشرت بسرعة في الميديا، ولها جمهور واسع ينفس من خلالها ضغائنه، هي خرافة الأسلوب الغامض للكتّاب، والمطالبة، بنحو تهكمي وعدواني أحياناً، تبسيط الفكرة كما لو أن هؤلاء يقنعون الآخرين فعلاً أنهم يحاولون القراءة لولا غموض أسلوب الكاتب! فيلجأ عامة الناس إلى مزيد من التنمّر والاحتقار تجاه المثقفين، والإكثار من الاقتباسات التي تذمهم.

ومن لوازم هذه التقليعة المقولة الشهيرة التي أضحت بضاعة رخيصة وأعني بها مقولة «نقد المثقف». وضمن هذا المسعى المريب تبدو المعادلة كالتالي: جماعات تتصدى لتفعيل مقولة نقد المثقف، لكن هذه الجماعات نفسها لا يمكنها الصبر على قراءة كرّاس صغير.

 والحقيقة أن مجمل هذه الصراخات، التي استباحت لنفسها كل أشكال العدوانية تجاه عموم المثقفين بحجة التعقيد، هي صراخات مفتعلة يغلب عليها طابع المحاكاة المشوهة لجمهور القرّاء الحقيقيين. إنها في الحقيقة صرخات تصدر من كائنات شعبوية تعتبر القراءة ترفاً، وآخر همومها الانشغال بقراءة كتاب لعدّة إيام.

 ومن دون أدنى شك لا يدفعنا هذا الكلام للتخلي عن حسن البيان ورشاقة العبارة ووضوح المطالب. فلهذه المشكلة سياقات واضحة ودراسات مستفيضة، وقد أشبعت نقداً وتفكيكاً، لكنها تصدر من ذوي الاختصاص وجمهورهم، وهذا الأخير لا يخفي شكواه من التنطّع والتقعير والتكلّف المفتعل عند بعض الكتّاب، لكنها شكاوى نابعة من وجدان صادق يسعى حثيثاً للغوص في القراءة، عبر الشروح والمقدمات التي يوفرها الوسطاء المحترفون لتفكيك النصوص العميقة. وهو جمهور يولي أهمية قصوى بالتأكيد لمقولة نقد المثقف، لكن على طريقته الخاصة بعيداً عن أي محاكاة مشوهة. 

 ولا نريد الدخول أيضاً بمعمعة المطالب العميقة بذاتها، بمعنى حتى حسن البيان والشروحات لا تفكك مغاليقها بقدر ما تقرّبها للقارئ خطوة إضافية، وتبقى حكراً لجمهور القرّاء المتمرسين، مثل ميتافيزيقا أرسطو، ونقد العقل المحظ لكانط، وفينومينولوجيا الروح لهيغل، والكينونة والزمان لهيدغر، وغيرها. لا يمكن ولوج مطالب هؤلاء العالية إلا من خلال النوافذ التي يفتحها الشرّاح المحترفون.

 بأي حال، أنها قضايا خاصة للغاية لجمهور لو قارنّاه بعامة الناس لكانت النسبة مخيفة. فمطالب التبسيط، إذن، يختفي ورائها دافع ليس نقياً، أغلب الظن، خصوصاً حين يصدر من سكّان الميديا، وهذا ما يثير الريبة، لدرجة أن هذه الشعارات الجوفاء والمطالب المريبة تعفي نفسها كلياً من عناء المتابعة الحثيثة والصبر الجميل على مصاحبة الكتب والسهر على المطالب الفكرية العالية.

الصبر على الكتاب واستنطاقه والاستعانة بالوسائط والشروحات حالة يشترك فيها كل من استبد به الشغف نحو القراءة، سواء أكان الكتاب نظرية علمية، مفهوما فلسفيا، نصا أدبيا، إلى لوحة فنية. 

قال أبو علي بن سينا: 

«قرأت كتاب ما بعد الطبيعة فما كنت أفهم ما فيه والتبس علي غرض واضعه. حتى أعدت قراءته أربعين مرة وصار لي محفوظاً وأنا مع ذلك لا أفهمه، ولا أعلم ما المقصود به. وأيست من نفسي، وقلت هذا لا سبيل إلى فهمه، وإذا أنا في يوم من الأيام قد حضرت الورّاقين، وبيد دلال مجلد ينادي عليه فعرضه علي فرددته رد متبرم به، معتقد أن لا فائدة في هذا العلم، فقال لي اشتر مني هذا فإنه رخيص، فاشتريته بثلاثة دراهم، فإذا هو كتاب لأبي نصر الفارابي في أغراض كتاب ما بعد الطبيعة، فرجعت إلى بيتي وقرأته فانفتح علي به في ذلك الوقت أغراض كتاب ما بعد الطبيعة، فرجعت إلى بيتي وقرأته فانفتح علي به في ذلك الوقت أغراض الكتاب، بسبب أنه قد كان لي على ظهر قلب، وفرحت بذلك وتصدقت ثاني يوم بشيء كثير على الفقراء وشكرت الله تعالى».