ستبقى الدولة سؤالاً أبديًّا

آراء 2024/04/24
...

 أ.د عامر حسن فياض

إن ماهية أي شيء تحددها علاقته بالكل الذي يرتبط به وينتمي إليه من جهة، وإنجازه من جهة ثانية لوظائفه المؤهل لأداها، بحكم ارتباطه بالكل الذي هو جزء منه، فاليد لاتُعرف إلا بدلالة ارتباطها بالجسد أولا، وبوظيفتها كأحد اجزائه المؤهلة للإمساك بالاشياء ثانياً، لذلك لا تعود اليد يداً إذا انفصلت عن الجسد، أو كفت عن اداء وظيفتها فيه ومن أجله، هذا هو جوهر نظرية الوحدة العضوية.

هكذا يكون اصل السلطة السياسية، في الفكر الارسطي، اصلا انسانيا إرادياً

 عندما تغيب الدولة أو تنكسر يعود سؤال الدولة وتعود ضرورة الاجابة عنه وابدية هذا السؤال ترجع إلى تجذره التأريخي، ناهيك عن ضرورته للحاضر والمستقبل.. فما هي اصول سلطة ونشأة الدولة في العقل الارسطي بوصفه عقلاً انسانيا عاقلاً ؟

إذا كان اصل السلطة السياسية وعلة نشأة الدولة عند افلاطون، حاجة الانسان الطبيعية والاجتماعية، واضطراره بسبب عجزه عن اشباع حاجاته بنفسه، إلى الاجتماع بغيره والتعاون معهم للإيفاء بتلك الحاجات وإشباعها، بتبادل الخدمات والمنافع والخبرات، لتتكون الدولة من اجتماعهم وتنظيمهم لحياتهم والسلطة التي تدير شؤونهم. 

فإن اصل السلطة عند ارسطو وعلة نشأة الدولة يبدأ افلاطونياً لينتهي ارسطياً، متفقا مع افلاطون في ان الطبيعة الاجتماعية للإنسان وحاجته للتعاون مع اقرانه لإشباع احتياجاته، هي سبب وعلة حاجته إلى السلطة المدبرة لشؤون الاجتماع الانساني المنظمة لأحواله، ومخالفا له في ان الطبيعة خلقت الأولى، التي كونتها الطبيعة لإشباع حاجات الانسان ومطالبه الطبيعية. ومن ثم فإن الاسرة، وليس الفرد كما ذهب افلاطون، هي الاجتماع الأصغر الذي يبدأ الاجتماع الانساني به ومعه، فليس هناك انسان فرد بذاته، لأنه دائماً انسان مولود من اسرة وفي اسرة. 

ومن الاسرة يتكون الاجتماع الانساني الاوسط (القرية)، التي هي مجتمع أسر، غايته إشباع ما هو أكثر من شخصي ويومي من الحاجات الانسانية. ومن اجتماع القرى، يتكون الاجتماع الاكبر (المدينة)، المستقل اقتصادياً، اي القادر على كفاية ذاته وإشباع متطلباته بنفسه، بما يجعله اجتماعاً كاملاً، وهو الاجتماع الوحيد المؤهل لان يكون كذلك.

إلا أن هذا التتابع التدريجي المتصاعد، اجتماعيا وواقعيا يتخذ عند ارسطو مساراً آخر على المستوى الفكري، فالمدينة وهي ايضا الدولة وفقاً لنمطي الحياة والتصور الاغريقيين، أسبق تكويناً وغاية من الاسرة والقرية على المستوى الفكري، وان كانت تالية لهما على المستوى الزمني، لان المدينة/ الدولة، أسمى الموجودات والغايات وأكثرها كمالاً، وهي الكل وماعداها الجزء والكل اسبق من الجزء والاكثر كمالا في تكوينه وغاياته اسبق في الفكر مما هو اقل منه، تكويناً وغاية. ولان الانسان كائن اجتماعي، والمجتمع ينتهي إلى المدينة – الدولة، والمدينة – الدولة كيان سياسي، كان الانسان بطبيعته كائناً سياسياً، أو بمصطلح ارسطو (حيواناً سياسياً). ولأن الانسان كائن اجتماعي سياسي بطبعه، فلا يمكن ان يوجد خارج المجتمع السياسي أو يستغني عنه، إذ لابد انتمائه إلى المدينة – الدولة وارتباطه بها، وإلا فسيكون أدنى من البشر، فهو حيوان متوحش، أو أرقى من البشر، فهو إله متوحد، مغتني عما 

سواه.

وتقوم رؤية أرسطو السياسية هذه على مرتكزين :

الاول : إن المدينة – الدولة هي الاجتماع الذي هو غاية لكل ما دونه من الاجتماعات، ولان طبيعة كل شي غايته، وغاية كل شي خيره الاسمى ومثاله الافضل، فإن طبيعة المدينة ستحددها غايتها التكوينية، في العيش المشترك بأفضل طريقة ممكنة ماديا واخلاقيا، تحقيقا لسعادة المجتمع الانساني وفضيلته، وهو ما يحقق اتصال علمي السياسة والاخلاق في المنظور الارسطي ويؤكده.

الثاني: إن ماهية أي شيء تحددها علاقته بالكل الذي يرتبط به وينتمي إليه من جهة، وإنجازه من جهة ثانية لوظائفه المؤهل لأداها، بحكم ارتباطه بالكل الذي هو جزء منه، فاليد لاتُعرف إلا بدلالة ارتباطها بالجسد أولا، وبوظيفتها كأحد اجزائه المؤهلة للإمساك بالاشياء ثانياً، لذلك لا تعود اليد يداً إذا انفصلت عن الجسد، أو كفت عن اداء وظيفتها فيه ومن أجله، هذا هو جوهر نظرية الوحدة العضوية.

هكذا يكون اصل السلطة السياسية، في الفكر الارسطي، اصلا انسانيا إرادياً، بدلالة:

1 - التكوين الانساني لدولة المدينة، التي هي حاصل اجتماع قرى، هي حاصل اجتماع أسر، هي حاصل اجتماع افراد جعلتهم وتجعلهم متطلبات اشباع حاجاتهم الطبيعية كائنات اجتماعية مدنية بالطبع. ولما كان كل اجتماعي مدني، اجتماعياً سياسياً ايضاً بالضرورة، فهم إذا كائنات اجتماعية بقدر ما هم كائنات سياسية ايضا، فلا يمكن وجودهم أو استمرارهم إلا بوجود السلطة السياسية واستمرارها.

2 - التكوين الغائي لدولة المدينة، التي غايتها الوصول بالانسان ومجتمعه إلى حياة الخير والسعادة، عبر مسار تطوري متدرج، يرتقي بالاجتماع الاسري، وليس الفردي لان الفرد لايوجد إلا من أسرة وفي اسرة، يرتقي به إلى مستوى الدولة والتي هي اسمى الاجتماعات الانسانية وأكثرها فضيلة وخيراً 

وكمالاً.

3. التكوين الفكري لدولة المدينة التي هي عند ارسطو اسبق من الاسرة في الفكر، بينما الاسرة اسبق في الوجود المادي، لأن الكل (الدولة) اسبق من الجزء (الاسرة). فالتفكير في المدينة – الدولة وإدراكها كنتاج للتكوين الطبيعي للإنسان مهمة ينجزها العقل الانساني من خلال تفكيره بهذه الاسبقية ووعيها أولاً، وعبر تفكيره ووعيه لاشتراط التعاون الانساني كأساس لقيام الدولة ثانياً.

4. التكوين العقلي السلطوي لدولة المدينة، إذ يجعل ارسطو شرط انسانية المدينة تسلط العقل عليها وحكمه لها، فالنفس البشرية العاقلة لديه هي النفس الحكيمة، وهي خاصية ينفرد بها الانسان عن باقي المخلوقات ومتابعا خطى استاذه افلاطون، يقسم ارسطو النفوس الانسانية ثلاثياً : 

- نفس نامية (شهوانية) تشترك فيها كل المخلوقات (البشر والحيوان والنبات).

- نفس حاسة (غضبية) تشترك فيها بعض المخلوقات (البشر والحيوان).

- نفس عاقلة (حكيمة) يختص بها البشر دون غيرهم من المخلوقات.

وإنسانية الانسان يحققها عيشه وفقا لاحكام النفس العاقلة التي تمتزج فيها حياته الاجتماعية العملية المتسمة بالنزاهة والخير، بحياته التأملية الفكرية المتسمة بالفضيلة، وفي اعتدال وتوسط رأى فيه أرسطو وسطاً ذهبياً بين افعال متطرفة هي رذائل، أصلها إفراط ومبالغة أو تفريط وانعدام. فالشجاعة فضيلة متوسطة بين رذيلتين، تهور (إفراط) وجبن (تفريط)، والكرم فضيلة متوسطة بين رذيلتين، إسراف (افراط) وبخل (تفريط). وحياة الفضائل الانسانية الوسطية هذه محكومة فردياً واجتماعيا بالإرادة الانسانية العاقلة المتعقلة اي الحكيمة المتحكمة، وستكون لفكرة الوسط الذهبي هذه، تجلياتها السياسية والاجتماعية الاخرى في نطاقي اشكال السلطة والقوى الاجتماعية الناشطة فيها وأدوارها الايجابية أو السلبية في إطارها. ماسطرناه يعبر عن جزء من جواب سؤال الدولة الأبدي...