في الذاكرة الجمعيَّة.. حكايات من المأثور الشعبي

ثقافة شعبية 2024/04/25
...

 نصير الشيخ

الكثير من الاعتقادات ظلت مستمرة في حيزها التداولي، بل وحفرت في الذاكرة الجمعية صورها وخيالاتها، وهذه الاعتقادات في وجهٍ من وجوهها تنتمي إلى العقل الإسطوري حيث (الأسطورة تنتمي للمراحل البدائية الأولى للفكر الإنساني).
وحياتنا الشعبية فيها الكثير المنتمي لهذا الحيز، حيث تجتمع الواقعة مع التخييل مع إضفاء صفات لهذا المعتقد لتكون (الحكاية). وحكاية " الطنطل" التي آمن بها العراقيون وتحديدا (العماريون) وظلوا ينقلون خوارقه ومغامراته التي جرت بينهم وبينه.نقرأ كل هذا السرد عن حكاية (الطنطل) عبر مادونه الباحث في الفولكلورالراحل د.كريم علكم الكعبي، لنذهب في رحلة تشويقية تكشف لنا هذا العالم المتخيل وتجذره في الوعي الجمعي، وامتداد حضوره ما بين العقل وصحوته وما بين أسطرة الواقع.
حكايات (الطنطل)، التي آمن بها العماريون، وظلوا ينقلون خوارقه ومغامرته التي جرت بينهم وبينه، ومثلما للجنوب شخصياته الغيبية كان للوسط، والشمال شخصياته الغيبية الخاصة به مثل (السعلوة – والديو، وام الصبيان، والدامي، والمصير، والقرينة)، ولا يستطيع المرء ان يقف على حقيقة (الطنطل)، وانما هو (ملك من السماء) قد خالف أوامر ربه فطرده إلى الأرض، وسكنها، وفي مناطق عديدة، فالمقابر، والأماكن الموحشة، والزوايا النائية، والأحياء المهجورة أماكن اعتاد على ارتيادها، وفضل السكن فيها، والاقامة للتخطيط لأحابيله، وحيله.
وقد آمن العماريون إلى حد لا يتصوره العقل بهذه الشخصية إذ انهم لم يدعوا مجالاً للنقاش حول صحة وجود الطنطل. والقصص، والروايات، التي صاغها العقل الشعبي حول هذه كثيرة جداً، وجاءت مرددةً على ألسن الكثيرين.
وظل (الطنطل) إلى وقت قريب الرادع الأول لتصرفات الاطفال، فتمادى الطفل في بكائه، وكثرة طلباته ومشاكسته تردع بعبارة (جاك الطنطل)، فمجرد وقوع هذه العبارة على مسمع الطفل تراه يكف عن كل ما قام به، ويخاف، ويخشى مجيئه ! منذ الصغر، ويظل هذا  الاعتقاد، والتفكير عالقاً في مخيلته وهو صغير إلى ان يكبر فيصبح وكأنه حقيقة، لأنه يعيش مع جماعة لا تسفه مثل هذه الادعاءات، أو تدعى بطلانها باحاديثهم في سمرهم. وفي مجالسهم، وولائمهم لا تخلو من مغامرات طريفة بطلها (الطنطل).
والسائد بين الناس ان (الطنطل) يأتي على هيئات مختلفة، فهو يتمتع بقوة عظيمة يستطيع من خلالها انتحال هيئة أي حيوان، أو بشر: فتارة تجده في بعض الحكايات سمكة كبيرة، وفي حكايات أخرى، هو ضوء لامع، وثالثة شخصية بشرية، ورابعة حيوان بري، وخامسة حيوان بحري، وسادسة طفل صغير، او شاب ظريف، او شيخ عجوز، او دجاجة او معزى،.. الخ.
    ترى كيف يمكن إيقاف هذه القوة وصفاتها وانتحالها الشكلي، لا سيما وانها أسست مخاوفها لدى فئة الأولاد/ الصبيان/ الأطفال، ليصبح وجودا قاراً في الحارات الشعبية والأمكنة المتروكة والخالية عن حركة الناس،.. من يوقف هذا المخيال العاصف بمخاوفه بين الناس (ولا يمكن لاي شخص أن يخرج في أوقات محددة الا، وهو يقرأ آيات من القرآن، ويذكر الله كثيراً، فلا عقاب، ولا رادع لتصرفات هذه الشخصية الا الفاظ وضعها العقل الشعبي على المرء ترديدها اذا ابتلى (بالطنطل) لينهزم، وهي (سجينه، ولحم) (مخايط، وأبر) فتكون هذه العبارات بمثابة مقاومة عنيفة ضده ينهزم على أثر سماعها، ولم يعد ثانيةً. وآخرون يجعلون ترديد كلمة (جري – جري،.) سلاحاً عنيفاً لطرده.
ولا يمكن تغيير غذاء الطنطل، وهو (الخبز الماصخ) ولذلك سمي احياناً (الماصخ) نسبة إلى غذائه، وقد يتعرف بأحدهم، ويطمئن له يبقى تحت أمره، وسيطرته ويحقق له كل ما يتمنى، وهذا الاعتقاد يذكرنا بمصباح علاء الدين، وعفريته. ومن أجل توضيح ما تحدثنا عنه نسرد بعضاً من حكايات كثيرة، وفريدة من نوعها خرافية في  وجودها حول هذه الشخصية، وافعالها الجبارة، ومعجزاتها الكبيرة. فحدثنا أحدهم بأنه ضرب قطاً ذات ليلة في داره بعد ان كرر القط أكل طعام العائلة لعدّة ليالٍ، وبعد مضي ليلة كاملة على ضرب القط.
وبينما كان غاطاً في نومه العميق، واذا بالباب تطرق. فذهب ليفتحها، وفوجئ بأنه امام اثنين من الأقزام المسلحين يطلبان ذهابه معهما، وبدون نقاش، نفذ ما ارادا ظناً منه أنهما من الدرك، ولهم معه حاجة ما، ولكنْ سرعان ما عرجوا به صوب مقبرة، فسار معهما دون ان يبدي أي احتجاج.