الغيريَّة والعولمة من منظور أنثروبولوجي

آراء 2024/04/28
...

 د. عبد الواحد مشعل


إن قراءة متأنية في كتاب محمد يقين الهوة الغيرية وقضايا التداخل الثقافي، يجد أن الغيرية متغيرٌ ثقافيا ساسيا، في فهم مسار التحولات التي يشهدها عالمنا اليوم تحت عباءة العولمة فهي اخذت تجتاح الحدود، وعلى نطاق واسع وهو ما جعل العولمة تتوغل في المسارات الثقافات الانسانية بأبعادها المحلية والإقليمية، بعد سيطرتها في الجانب الجانب الاقتصادي في اطار محاولتها الهيمنة على السوق العالمية، إلا أن ذلك يبقى ضم الحدود، التي تسمح بها الثقافات المحلية ومدى قدرتها على التصدي للغريب منها، على وفق ما تمتلك من ميكايزيمات ثاقية صلبة.

أصبحت تقنيات العولمة لها أسواق رائجة في كل انحاء المعمورة، بحيث أصبح كل شيء أمام الانسان أمرا معروفا، لذا فان العولمة الداعية لبورة ثقافة عالمية واحدة أذكت في الوقت نفسه الهويات الفرعية، والاثنيات تحت مظلة حقوق الانسان وحقوق الاقليات، ما ولدت صراعات محلية في مختلفة المجتمعات، ولاسيما في المجتمعات التي كانت تحكم بنظم شمولية، ففي اللحظة التي انهارت، نشبت تلك الصراعات والنوعات، التي اخذ الكثير منها اسلوبا دمويا، كما في رواندا.

واذا كان الحديث عن الغيرية اصبح امرا معتادا عند الدارسين في الفلسفة والانثروبولوجيا، فإن مسألة علاقتها بالهوية باتت واضحة، ففي الوقت التي خلقت الغيرية هوية ليس في مكان محدد، إنما أصبحت في اماكن جغرافية مختلفة، فلم يعد الانسان ينعت بمكان جغرافي واحد، إنما امتد إلى أمكنة في بقاع مختلفة، بحيث غابت معها هوية خالصة له، حتى ظهر مصطلح متداول في الاوساط العلمية (هوية باربعين هوية).

لقد سيطرت الآلة الاعلامية الغربية على مختلف فضاءات الكرة الارضية، وامتدت إلى مؤسسات مختلفة، كالتعليم وارتفاع صوتها مطالبةً بتغير مناهج التعليم بطريقة تلائم مصالحها وتوجهاتها العولمية واهدافها الاجتماعية والثقافية والاقتصادية، حتى اصبحت الهوية المحلية عرضة لتهديد حقيقي وخطر محدق بها، وقد شاعت دعايات للماركات الامريكية على نطاق واسع التي جذبت اليها الاجيال الجديدة، وبهذا المعنى اضحت الغيرية وعلاقتها بالعولمة ظاهرة عالمية تستدعي من الدراسين دراستها وتحليلها وتفسيرها، وهو ما وضع الانثروبوجيا بمنهجها الجديد تهتم بما يعرف(بالانسان الكوني)، بعدما كان اهتمامها بالمجتمعات المنعزلة والتقليدية، وعلى وفق هذا الصور فان المجتمع الاسلامي أو المجتمعات النامية الاخرى خارج الدائرة الامريكية والغربية، تمتلك ارثا حضاريا وثقافيا يمكنها بامتلاك مصدات ثقافية، تقاوم المحاولات الرامية لطمس هويتها الثقافية، تحت غطاء العولمة، إلا أن تلك المصدات حتى يكتب لها الاستمراية و تزداد قوتها، بحاجة إلى نهضة حضارية تمكنها من الانتاج المعرفي والتقني من أجل أمر في غاية الاهمية، وهو الحفاظ على اصالتها وفعليتها في التطور الحضاري الانساني، وليس خاضعة لارادة خارجية تريد دمجها بالنموذج العولمي الغربي.

ان القدرة على تحقيق ذلك ستجعلها تشارك في تشيكل عالم متعدد الاقطاب، يكون قطبها مميزا بثقافتها وحضارتها إلى جانب نماذج قطبية حضارية اخرى، وعنئذ سيكون للغيرية تفسير مختلف للانسان الكوني، التي تباعدت عنده المسافات والامكنة، واذا كان الحديث عن هوية خالصة في ظل النظام العولمي أمرا صعب التحقيق، فإن تأسيس مثل هذا القطب سيحافظ على هويتها بين الهويات الانسانية بفعالية عالية.