ثامر عباس
قبل أن تتعرض شعوب البلدان العربية لاكتساح الظاهرة الكولونيالية، لم تكن تفقه شيئا»عن معانٍ ودلالات مفاهيم من مثل؛ الرأسمالية والليبرالية والديمقراطية والاشتراكية والشيوعية، اللهم إلاّ النزر اليسير مما تنطوي عليه من أفكار مبتسرة وتصورات مبهمة، حيث ساهمت في نشرها وتداولها جهود بعض الرحالة والمترجمين ممن استهوتهم مضامين تلك المفاهيم والمصطلحات، بحيث ضمنوها كتبهم وأدرجوها ضمن مصنفاتهم بصورة لا تخلو من التبسيط الواضح والاختزال الفاضح.
ولكن مع مطالع القرن العشرين كان لتلك الشعوب التي أدخلت عنوة في دوامات السياسة الاستعمارية شأنا آخر مع تلك المفاهيم والمصطلحات التي أحيطت بهالة من الإعجاب الفطري والافتتان الساذج. إذ ما أن عمدت السلطات الاستعمارية - لتسهيل ظروف احتلالها وتهيئة مستلزمات استغلالها - إلى إدخال بعض ما اعتبره البعض (إصلاحات سياسية) و(تحسينات اقتصادية) و(خدمات اجتماعية) و(انجازات حضرية)، حتى تهاوت النخب في تلك البلدان صرعى (الوهم الليبرالي) الذي برعت في تزويقه وترويجه كيانات (مدربة) ومؤسسات (محترفة) أوجدتها السلطات الاستعمارية لهذا الغرض. هذا بالإضافة إلى وجود ثلة منقاة من السياسيين والمؤرخين والمستشرقين كمشاركين ومتعاونين مع تلك السلطات؛ إما بوازع الالتزام الوظيفي – الرسمي كخبراء ومستشارين، أو بدافع الاهتمام العنصري – الايديولوجي كباحثين ومفكرين.
وعلى ضوء هذه المعطيات وتلك المؤشرات، فقد اعتقدت تلك (النخب) أن تلك السياسة الممنهجة وما تمخض عنها من إجراءات ملموسة وممارسات فعلية، وضعتنا على أعتاب عصر جديد من التطور السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي، بحيث صار بمقدورنا ولوج طور الحداثة (الليبرالي) البعيد المنال، ان لم نكن قد بلغنا أوان قطف ثماره والتمتع بمزاياه. لاسيما وان سلطات الاحتلال لم تتوانى في تغذية ذلك (الوهم - الحلم) فكريا وتضخيمه سيكولوجيا لدى عناصر تلك النخب التي لم تتوانى - دون تبصر وبلا تحفظ – في السعي إلى توطينه اجتماعيا، ومأسسته سياسيا، وشرعنته إيديولوجيا، عبر بحوث كتابها ودراسات مفكريها الذين أخذوا بالمظاهر دون الجواهر، واحتكموا إلى الشكل دون المحتوى. لا بل ان هناك رهطا من الأكاديميين التقليديين ممن حاولوا إيجاد جذور محلية للفكرة (الليبرالية) داخل بيئتنا الاجتماعية، مثلما سعوا إلى خلق أصول لها في أوساطنا الثقافية.
والحال إذا ما نظرنا إلى الطبيعة السوسيولوجية لمجتمعات العالم الثالث – وبضمنها العربية طبعا- سنلاحظ ان الغالبية العظمى منها ذات بنى اجتماعية أقرب إلى (البطريركية) منها إلى (الليبرالية)، وأنماط اقتصادية أقرب إلى (الإقطاعية) منها إلى (الرأسمالية)، وأنساق ثقافية أقرب إلى (الفولكلورية) منها إلى (العقلانية). وهو ما جعل قسم كبير من مكوناتها شديدة الممانعة إزاء أية محاولة تستهدف انفتاحها أمام تيارات الفكر الغربي، لاسيما الإيديولوجية (الليبرالية) وما تنطوي عليه من قيم ومبادئ. سواء جاءت هذه المؤثرات عن طريق (التدخل) الخارجي المقنن والمشروط كما فعلت القوى الاستعمارية مع مستعمراتها السابقة، أو عن طريق (التقبل) الداخلي الممنهج والمتدرج عن طريق برامج التعليم الأهلي والرسمي من جهة، والانخراط بالسلك الوظيفي الحكومي من جهة أخرى. بحيث تتساوق عمليات الاستقرار السياسي والاجتماعي مع عمليات التطور الثقافي والحضاري، وهو ما ندر تحققه وتعذر حصوله إلّا في حالات محدودة وتجارب فريدة كما نعلم!. وبصرف النظر عما لحق بالإيديولوجية (الليبرالية) – في بيئاتها الجغرافية والحضارية - من تشظٍ إلى أنواع (سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية)، إضافة لما طرأ عليها من ارتدادت وتراجعات في أصل قيمها وكنه مبادئها التي تميزها عن سواها من الإيديولوجيات الأصولية والراديكالية (القومية والاشتراكية والشيوعية) التي لا تزال أطيافها ماثلة في الوعي الجمعي للكثير من المجتمعات، إلاّ أنها لم تبرح – وهذا هو الانطباع السائد - محافظة على طبيعة خصائصها النوعية وثوابتها الأساسية من حيث كونها التعبير المباشر عن (حرية الفرد) من كل قيد و(تحرر المجتمع) من كل عائق. وفي حين ان الأيديولوجية الليبرالية – في صيغتها الكلاسيكية - لا تقوم فقط على مأسسة السلطات وشرعنة المؤسسات، أي أن ((الدولة المركزية – كما لاحظ بحق المفكر الاقتصادي العراقي عصام الخفاجي – لا تعني الحداثة. أنها خطوة في هذا الاتجاه، لكنها ليست خطوة كافية بحد ذاتها)) فحسب، وإنما ترتكز أيضاعلى أنسنة العلاقات وعقلنة التصورات. فلنا أن نتصور كم هي خاطئة ومضللة تلك الدعوات والمحاولات التي يستهدف أصحابها تكوين الانطباع ان مساهمة المستعمر (الليبرالي) في تكوين (دولة) ما ووضع (دساتير) لها ورفدها ببعض (الإصلاحات) هنا أو هناك، هي بمثابة مؤشرات كافية على اختراق الإيديولوجية (الليبرالية) لبنى المجتمعات التاريخية الراكدة وتفكيك منظوماتها القيمية والرمزية، فضلا ىعن دور تلك المؤشرات في كسر حدة الممانعات التي كانت تبديها الجماعات التقليدية إزاء كل ما يمت بصلة لمبادئ وقيم تلك الأيديولوجية.