سناء الوادي
في تتمة لمقال سابق كنت قد أشرت فيه للحدث الأبرز الذي هز أركان الولايات المتحدة الأمريكية في نيسان المنصرم والذي بلغت حدته في السابع عشر منه، حيث تم استدعاء قوات الشرطة من قِبل رئيسة الجامعة مصرية الأصل « نعمت شفيق} لفض الاعتصام الطلابي في جامعة كولومبيا في نيويورك، كمؤشر مهم لعدم القدرة على ضبط الغضب مما يجري في غزة والمطالبة بالوقف الفوري لحمام الدم المسفوح للمدنيين الأبرياء في فلسطين.
وفي حين ناقشنا كيفية تناولت السلطات هذه الاعتصامات التي يكفلها القانون الأمريكي أساساً بالعنف والاعتقال والتشويه لمطالبها وإلصاق التهم المتعددة بالطلاب المشاركين في التظاهر كمعاداة السامية والتطرف وتشجيع الإرهاب على اعتبار حركة المقاومة الفلسطينية حماس جناحاً إرهابياً، فحاربت حرية التعبير التي قضّت مضجعهم وتنافت مع مصالحهم، وهدَّدت آلة القتل الإسرائيلية فانتفضت الُّلوبيّات الصهيونية الناشطة لوأد الصوت المناهض لغاياتهم وهو ما لم يكن بالحسبان يوماً، حيث ذهبت كل تلك المليارات من الدولارات، التي قُدمت لجامعات الولايات الخمسين، حسب أهميتها وتأثيرها على مدى العقدين الماضيين سُدى، فمن اللافت إلى أن غالبية الشعارات المرفوعة، تطالب الجامعات بوقف استثمار أموال جامعاتهم بكل ما يمت بصلة بإسرائيل سواء كان بشكل مباشر أو بالخفاء.
وإنَّ من فضائل هذه الاحتجاجات التي وَسمها بنيامين نتنياهو بالخطيرة كَشفِ اللثام عن كم الاستثمارات التي تموّلها هذه الجامعات من الوقف الخاص بها بالشركات الداعمة لإسرائيل أو في داخل إسرائيل نفسها، ولربما هذا الجانب المظلم للجامعات ذائعة الصيت في العالم والذي بمجرّد أن ظهر للعيان أفقدها جزء من المصداقية والاستقلالية، التي تتباهى بها وتعلّمها لطلابها في جنبات قاعاتها، بيدَ أنه وعلى المقلب الآخر الموجع لتل أبيب من الناحية الاقتصادية القلق من الرضوخ لمطالب أولئك الطَلَبَة وإيقاف تلك الاستثمارات كما حدث في العام 1968م عندما عمَّت الاعتصامات جامعة كولومبيا نفسها اعتراضاً على حرب واشنطن في فيتنام، حيث آتت أُكلها حينئذٍ وأرغمت الجامعة على إنهاء أبحاثٍ سريَّة، كانت تدعم الجيش في عمليات القتال الدائرة.
قد يتساءل البعض عن مدى تأثير ذلك على إسرائيل إذا ما استجابت الجامعات وسحبت الاستثمارات، وهنا علينا أن نلجأ للغة الأرقام والتي فيها القول الفصل، ففي إحصائية العام 2023م بلغ إجمالي الوقف التابع للجامعات ككل 839 مليار دولار استحوذت جامعة هارفرد على حصة الأسد منها بقيمة 50 مليار دولار، بالطبع ليس كل استثمارات الوقف الجامعي توظف لفائدة إسرائيل، ولكن عند تسريب بعض البيانات حول تلك الاستثمارات تبين أنها جزء من شركات تصنيع السلاح الأمريكية «لوكهيد مارتن وبوينغ « والتي أفاد تقريراً لصحيفة الغارديان قبل أيام بارتفاع نسبة أرباحها 14 % منذ انطلاق طوفان الأقصى، ناهيك عن شركات المعدات الثقيلة ك «كاتر بيلر» والشركات العملاقة مثل «غوغل وأمازون « وفي الواقع لا يخفى عن أحد مدى مساهمة هذه الشركات في دعم الكيان المحتل في التسليح وبناء المستوطنات، فضلاً عن تزويده بقدرات متقدمة بمجال الذكاء الاصطناعي، والتعرف على الوجوه وتصنيف الصور، واستخدام ذلك لملاحقة واضطهاد سكان الضفة الغربية وقطاع غزة، فقد أبرمت العملاقتين المذكورتين غوغل وأمازون عقداً بقيمة 1,2 مليار دولار مؤخراً مع الاحتلال الإسرائيلي لتلك الغاية.
لا يتوقف الأمر عند تلك الاستثمارات المخدِّمة للمدللة إسرائيل فقط، بل وسلّطت الضوء على عدم التزام تلك الجامعات بشروط وزارة التعليم الأمريكية التي تنص على الإبلاغ عن الهبات التي تصل للجامعة من الجهات الأجنبية، دون التكتم عليها، وهذا ما كشفته تقارير الوزارة التي وصلت إليها تسريباً عن استثمار إسرائيل مبلغ 375 مليون دولار في 100 جامعة أمريكية على مدى العقدين الماضيين وهذا مبلغ صغير لا يقارن بالحقيقي غير المبلّغ عنه، ناهيك عن قبول معهد إم أي تي أكثر من 11 مليون دولار بالعشر سنوات الأخيرة للقيام بأبحاث حول أنظمة الصواريخ وملاحة المسيّرات «الدرونز».
لماذا كل هذه السريَّة الكبيرة حول الاستثمارات؟ تصدَّرت الاعتراضات الطلابية تلك التساؤلات حيث أنه من المفروض أن تكون الشفافية عنواناً رئيساً لتلك الاستثمارات، والتي من المفروض أن تكون أخلاقية على أقل تقدير.
كاتبة وإعلامية سورية