عادل الجبوري
في غضون أسابيع قلائل، تحولت الاحتجاجات الصغيرة والمحدودة النطاق التي شهدتها بعض الجامعات الأميركية، تأييداً ودعماً لنضال الشعب الفلسطيني، وتنديداً بجرائم الكيان الصهيوني ضده، إلى حركة عالمية واسعة، تجاوزت حدود الولايات المتحدة الأميركية، لتطرق أبواب أوروبا وآسيا وأفريقيا والأمريكيتين، ولتلهب حماس ملايين الناس من مختلف المشارب والانتماءات، وتقلق الكثير من الأنظمة والحكومات ومراكز صنع القرار في العواصم الكبرى.
لاشك أن الحركات الاحتجاجية الطلابية وغير الطلابية العالمية، ليست بالأمر الغريب وغير المألوف، إذ أنه على امتداد التأريخ الحديث والمعاصر، شهدت العديد من البلدان حركات من هذا القبيل، كان لها تأثير كبير جداً في صياغة المعادلات السياسية، من خلال الإطاحة بأنظمة معينة وتشكيل أخرى بدلاً عنها، أو بأدنى تقدير، عبر فرض قوانين وتشريعات تقلِّص مساحات الظلم والاضطهاد، كما هو الحال بالنسبة لحركة الحقوق المدنية المناهضة للتمييز العنصري في الولايات المتحدة الأميركية خلال النصف الثاني من القرن الماضي، وكذلك حركة مناهضة الفصل العنصري في جنوب أفريقيا التي امتدت طيلة القرن الماضي.
بيد أن الأمر يبدو مختلفاً هذه المرة بشكل واضح وملموس، لعدة أسباب من بينها:
-إن الولايات المتحدة الأميركية، مثلت المنطلق الرئيس للحراك الطلابي العالمي الأخير الداعم لفلسطين، وتحديداً من جامعات عريقة، لم يعرف عنها أنها تحركت بمسارات متقاطعة ومتعارضة مع المنظومة السياسية العليا هناك، بل لم يعرف عنها أنها تبنَّت مواقف تنطوي على عدم انسجام مع متبنيات ومواقف وثوابت الكيان الصهيوني منذ تأسيسه قبل ستة وسبعين عاماً، مثل جامعة كولومبيا، وجامعة جورج تاون، وجامعة كالفورينيا وسواها.
- في أوقات وظروف ومناسبات سابقة، شهدت الولايات المتحدة حركات وانتفاضات شعبية - سواء طلابية أو غير طلابية- تمحورت مطاليبها وشعاراتها حول قضايا وشؤون محلية داخلية مطلبية إلى حد كبير، على خلاف الحراك الطلابي الأخير ، الذي تبنَّى قضية عالمية ذات طابع إنساني بالدرجة الأساس، متقاطعاً بالكامل مع التوجهات والسياسات الرسمية التقليدية الأميركية، وهو ما دفع المؤسسات السياسية والأجهزة الأمنية الأميركية للذهاب إلى خيار المواجهة المباشرة والتصعيد العنيف في إطار محاولاتها ومساعيها المحمومة لاحتواء ذلك الموقف الحرج والخطير وغير المسبوق، بحيث أن أعداد المعتقلين من الطلاب المحتجين بلغت أرقاماً غير مسبوقة، وبعيدة كل البعد عن جوهر الشعارات البراقة عن منظومة القيم الديمقراطية الغربية.
- وبدلاً من إنهاء ذلك الحراك وتطويقه ووأده ضمن حدود الولايات المتحدة الأميركية، راحت أصداؤه تمتد وتتوسع سريعاً كالنار في الهشيم إلى بقاع أخرى، ليتكرر ويتسع المشهد إلى الجامعات الفرنسية والبريطانية والألمانية والكندية وغيرها.
- ولعل المفارقة المهمة للغاية والملفتة، هي أن الحراك الداعم لفلسطين والمناهض للكيان الصهيوني، انطلق هذه المرة بقوة وزخم كبير جداً من أبرز المعاقل الغربية المؤيدة لذلك الكيان، وصاحبة الفضل في إيجاده وتأسيسه على حساب الحقوق الشرعية والتأريخية للشعب الفلسطيني.
وفي السياقات الطبيعية، يمكن لنا أن نفهم ونتفهَّم ونستوعب أن تبادر شعوب وحكومات دول تتبنى نهجاً ثورياً تحررياً معادياً للغرب إلى أي ممارسات داعمة ومساندة لفلسطين وشعبها المظلوم المضطهد، ولكن أن تكون الولايات المتحدة وأوروبا بقواها الكبيرة هي المنطلق للحراك الطلابي العالمي المساند لفلسطين، فهذا يعد تطوراً دراماتيكياً مهماً، يستدعي إعادة قراءة المشهد العالمي بالكامل، ويستدعي كذلك استشراف التداعيات المترتبة، أو التي يمكن أن تترتب عليه ستقبلاً، خصوصاً أن مجمل المؤشرات تؤكد أن مديات الحراك آخذة في التصاعد والاتساع لا التراجع والانحسار.
- رغم أن موجة القمع الصهيوني التي ترافقت مع معركة "طوفان الأقصى"، لم تكن الأولى ضد الشعب الفلسطيني, بل إن للكيان الصهيوني سجلاً طويلاً حافلاً بشتى الانتهاكات والجرائم المنافية للقوانين والمواثيق الدولية، لكن لم تصل ردود الأفعال العالمية في أي وقت من الأوقات لما وصلت إليه الآن، وهذا ما عكس حجم الجرائم الصهيونية المروِّعة من جانب، والبعد العالمي الذي بلغته القضية الفلسطينية ارتباطاً بحقّانيتها وقوة وصلابة إرادة أبنائها، قيادات وقواعد، من جانب آخر. فضلاً عن كونها باتت جزءاً من محور المقاومة، الذي أصبح نداً وخصماً للمحور الأميركي الغربي، يحسب له ألف حساب، لاسيما أن مساحاته اتسعت، وميادينه تعددت، وأدواته تطورت، ووسائله تنوعت.
- حتى الآن، إذا لم يكن الكيان الصهيوني، قد خسر المواجهة العسكرية مع حركة المقاومة الإسلامية الفلسطينية (حماس)، فإنه بلا شك، لم يربحها، وهذا ما تؤكده مجمل الأرقام والحقائق على أرض الواقع. ووفق كل القراءات والتحليلات والتقديرات، مثلت معركة "طوفان الأقصى" ضربة قاصمة للكيان الصهيوني، ربما لم يتلقَّ مثلها منذ تأسيسه. لكن وبحسب ما يدور ويتداول في الأوساط السياسية ووسائل الإعلام الإسرائيلية ومراكز الرأي في تل أبيب، فإن وقع وأثر الحراك الطلابي العالمي، كان أشد من وقع نتائج ومعطيات ومخرجات المواجهة العسكرية، لأن الأخيرة مساحاتها محددة ومحدودة ونتائجها معلومة وملموسة، بينما الأولى-الحراك الطلابي العالمي- مساحاتها وآفاقها مفتوحة، ونتائجها وانعكاساتها وتداعياتها غير منظورة.
- والأهم من ذلك كله، هو أنه في مقابل مشاركة أعداد من الطلاب الجامعيين من أصول عربية ومسلمة في الحراك الطلابي العالمي في الولايات المتحدة الأميركية وأوروبا، فإن هناك أعداداً لايستهان بها من الطلاب الأميركان وغير الأميركان، الذين ينتمون إلى الديانة اليهودية، كان لهم دور فاعل ومؤثر في ذلك الحراك، انطلاقاً من معاداتهم للصهيونية، واعتبارها عقيدة سياسية منحرفة تتضارب مع العقيدة الدينية اليهودية. ولعل ذلك ما رفع مستويات القلق لدى أوساط مراكز القرار في تل أبيب وجماعات اللوبي الصهيوني-اليهودي في واشنطن وعواصم أخرى.
وربما جزء من ذلك القلق يتعلق بمستقبل العلاقات الستراتيجية بين واشنطن وتل أبيب.
هذه هي بعض من معالم وملامح المشهد الجديد، الذي راح يتبلور ويتشكل في عالم يعيد ترتيب أوراقه رغماً عن قواه الدولية الكبرى.