الموسيقى في حياة الأدباء

ثقافة 2024/05/08
...

 صلاح حسن السيلاوي

يا لها من علامة استفهام رشيقة وعميقة، تلك التي تقف في آخر الجملة المتسائلة عن أثر الموسيقى في حياة المبدع، تلك العلامة المتلفتة لمنابع الضوء، في سماءٍ من الخيال المزدحم بالليل والنهار؟ كأن الموسيقى جسر بين الإنسان وروافد معانيه الأولى، يسير عليه عالم من اللغات التي تتهاوى على جواهر الذات فتلمعها، فتصل وتفهمُ، ولكنها بذات الوقت عصية على القول والترجمة الحرفية، الآلات الموسيقية تشبه الأشجار.
حيث تكبر من البذرة وتزهر وتثمر من دون الحاجة إلى حرف واحد، كأنها الأنهار التي يتسلل ماؤها نحو الجذور، من دون التفكير بقواعد النحو، وفقه اللغة واشتباك المعاني، إنها تقول ذاتها بليونة قوية وثرية ومدهشة، في كل مرة تفصح فيها عن نفسها، تؤكد أنها ما زالت جديدة ؟
كم رافقت المعزوفات العظيمة الكتابةَ الإبداعية، فقد عبّرَ عديد من الأدباء عن تغلغل أرواح الآلات الموسيقية في نصوصهم، عبر آلية استماع المبدع للموسيقى أثناء الكتابة، أو عبر تشكل ذواتهم الثقافية من خلال تراكم سنوات الإصغاء لمباهج الموسيقى وعذاباتها في آن واحد.
بعض الأدباء كتب نصوصا مختلفة، فكان الناي أو العود او الكمان جوهرا لها، ومتنا لشعريتها أو سرديتها، حتى أنك تشعر أحيانا، أن هؤلاء الكتاب يتحدثون عن حبيباتهم أو أمهاتهم أو مدنهم أو أعمارهم، بينما هم يتحدثون عن تلك السواقي المتلفتة في مزارع الطفولة، أو عن شفاه الفاتنات أيام المراهقة، أو تجاعيد الأمهات أيام الحروب.  
تكتشف وأنت تتساءل عن أثر هذه الغيوم المتدافعة في سماء الأرواح المسماة موسيقى، تكتشف أنها غيرت بعض الأدباء، وشكلت أثرا عميقا في حياتهم، وأنقذت بعضهم من الحزن، وكانت ملجأ لهم من عواصف الفواجع المتكررة.
يختار بعض الكتاب آلات معينة من دون غيرها، لتكون رفيقة ذاته وكتابته، إنهم يزرعون على أرضها الحلمية، كثيرا من بذور دموعهم وأحلامهم وضحكاتهم، فتشارك تلك الآلات بعض تفتح أغصان النصوص على أصابعم، وتأخذ حيزا واسعا من تصوراتهم وأفكارهم.
ماذا لو أننا وصفنا الأشكال الكتابية، بآلات موسيقية معينة؟
أشعر أن الناي هو أقرب للشعر القادم من بطون التاريخ، أما الكمان حزينا أو مبتهجاً فهو الأقرب إلى الشعر العمودي، بينما يمكن أن نصف شعر التفعيلة بآلة القانون، وقصيدة النثر بالعود، فيما يمكن أن نسمي السرد وأشكاله المتعددة بجميع آلآلات الموسيقية.
ما أثر الموسيقى في حياتك الإبداعية؟
هل اعتدت الكتابة مع الاستماع إلى معزوفات معينة؟
هل كتبت عنها أو لها أو بها ؟
هل مثلتْ شيئا مهما أو غيرت مرحلة مهمة من حياتك؟
هل تميل إلى العزف على آلة موسيقية أو تفضل إحداها ولماذا؟
أيمكن أن نصف شكلا شعريا أو سرديا بآلة موسيقية؟
أيمكن مثلا أن نصف مرحلة زمنية كالتي نعيشها بأنها تشبه الكمان وأن مرحلة النظام السابق تشبه الناي مثلا؟
أيمكن أن تتصور حياتك الإبداعية من دون موسيقى؟
هذه الأسئلة وغيرها بحثتُ لها عن إجابات مع نخبة متميزة من مثقفينا عبر هذا الاستطلاع.

تعلقت بالموسيقى فصرت شاعرا
الشاعر وهاب شريف، تحدث عن علاقته بالموسيقى التي وصفها بالوثيقة والعميقة الجذور، مشيرا إلى تعلقه بها منذ طفولته فكانت تمثل له غذاء روحيا جميلا ، ومضى شريف يتحدث عن تأثير الموسيقى في حياته الشعرية، إذ كانت بواكير كتابته الشعرية الاولى ، تعتمد على أذنه الموسيقية الصافية ، التي تكونت عبر الاصغاء إلى تلك الموسيقى والاهتمام بها، فلم يحتج في بداياته إلى تعلم بحور الشعر بسبب ذلك الاثر ، وأضاف موضحا: لم أتعلم بحور الشعر العربي من خلال الشعر أبدا، ولم أحفظ الشعر لأقوله أو لأتعلم الوزن والقافية ، إنما اعتمدت أذني الموسيقية على هيامي بمقدمات أغاني محمدعبد الوهاب وأم كلثوم وعبد الحليم، ونجاة وبليغ حمدي.. ثم سحرني غناء ريف العراق القديم ، داخل حسن  وناصرحكيم وحضيري ابو عزيز وجبار ونيسة ومسعودة العمارتلي، بعدها بدأت أستمع إلى مقامات القبانجي والغزالي وزهور حسين.. إنه عالم من الجمال والروحانيات وهدوء النفس وتثقيف السلوك.. الموسيقى جعلتني أكتب في بحور غير مطروقة ولكنها منتظمة.
وفي قصيدة النثر أشعر أنني أكتب شعرا منتظما لتشبعي بالروح الموسيقية حتى إنني التجئ إلى الضرورة الشعرية في قصيدة النثر.. هل تصدق؟
لم أعزف على أية آلة موسيقية سوى الناي في أيام شبابي وتركته.
لم أفكر بتشبيه مرحلة زمنية بآلة موسيقية، إنما الذي حصل فعلا ، إنني أشبه الوقت الحاضر بالموسيقى الصاخبة، والزمن الذي مضى بالشلال.. وربما بالابوذية.
باختصار كثيف الموسيقى عندي هي الشعر والعاطفة، فالشعر موسيقى الحياة والعاطفة هي الموسيقى الحزينة.. بدأت حياتي ممثلا مسرحيا وكاتبا للقصص الخرافية.. وحين تعلقت بالموسيقى والغناء صرت شاعرا.

استقراء الجملة النغمية
القاص ميثم الخزرجي، يجد في إجابته، أن استقراء الجملة النغمية التي تخترق النفس البشرية لتستكن عندها وتمارس دورها في تفعيل مدركات الإنسان الحسية بحسب تعبير المدرسة التجريبية، تحتاج إلى هدنة عرفانية خالصة تتعالى في جوهرها لتصل إلى مرتبة الكشف الذي ينزع نحو استقصاء هاجس الموجودات من دون التحري عن مادتها العينية، لتسمو النفس البشرية عن طريقها تبعاً للارتباط الروحي الكامل بين هذه الترددات الموجية الواصلة وبين المحسوسات التي تستقبلها.
وأضاف الخزرجي متسائلا: هل ثمة جنبة باطنية فيما أقول تسترعي لغة مغايرة غير التي أدعيها؟
فلو تتبعنا الأثر الذي تنتج عنه حالة الإثارة العاطفية التي يصل إليها الإنسان، لوجدنا أن الإحساس هو الذي يتقدم على صورة العقل من حيث التعاطي مع مجريات الحياة، لكني هنا اتعاطى مع جملة موسيقية سافرة لا تنفد.
واقعا أن المشغل الموسيقي بالنسبة لي يعني الكثير، فقد رافقني منذ الصغر ليفتح فناراً من المعرفة والأسئلة الكونية التي ظلّت ترافقني لحد هذه اللحظة،  مؤثثا عدتي الأدبية عبر تحريك المضمر بكل تجلياته الفطرية وخروجه إلى دائرة الضوء، فقد تعرفت على الشعر العامي العراقي، عن طريق تناغم الكلمة مع اللحن ودخلت متقصيا نهما وباحثا عن طبيعة انثروبولوجيا المجتمعات، وما تتخلله من تثاقفات من حيث جهاز النطق واللهجة والسحنة  وحصيلة  الأنساق الثقافية، التي تعنى بإيقاع الكلمة منقبا عن غنائها الساكن في أطراف المدن ونواحيها، ساعيا أن أدون هذا المشروع في حلقات ورقية ، وفعلا باشرت بكتابة بعضٍ منها، مفصلاً توافق العلاقة بين الكائن البشري والموسيقى ومدى التأثر الجمالي التي تنتجه على السياق الحياتي وطريقة التصرّف وعن حقيقة تسمية (الطور) ونشأته في هذه البيئة من دون غيرها، مسوّغا ذلك إلى طبيعة التضاريس ومنسوب المياه ودرجة الحرارة وغيرها من العوامل الوراثية، التي تفد عبر السلالة أو من طريق التثاقف التجاري وسبل الملاحة، وصرت أتساءل مراراً عن ملامح هذه اللغة التي تستطيع أن تدرك المشاعر الإنسانية، لتفعل فعلتها.
واقعا، أن آلة الناي ترمز إلى مقدار الوجع والحيف الذي يستعمر الإنسان، وقد أصبح دلالة مشاعة ومستقرة في عموم الأجناس الإبداعية ، بينما تجد أن وصف آلة  العود في مواطن معينة غالباً، ما يدل على مدنية البيئة تبعاً لمنهاج تعلّمها، كذلك الحال في آلة القانون وغيرها من الآلات.
إن توظيف الآلات الموسيقية ورد على نحو متصل في جميع الأجناس الأدبية، وتنوعت اشتغالاته، وقد يخضع هذا التوظيف إلى وعي الأديب نفسه، بحسب مرجعياته الثقافية وصورة واقعه ومدى التعاطي مع هكذا مقررات جمالية ، ليكون هذا التجسيد علامة مضيئة ودلالة تنويرية غايتها ضرب كل مشاريع التجهيل والعنف، التي تزعزع القيم الانسانية والجمالية.

  أثر نفسي غرائبي
الروائي هيثم الشويلي، يرى في إجابته أن للموسيقى أثرا نفسيا وغرائبيا كبيرا، وأنها غذاء ومتنفس روحي، مشيرا إلى أن الأدباء لا يستطيعون العيش بمعزل عنها أو بلا شيء منها. ثم تحدث الشويلي عن تجربته الخاصة مع الموسيقى مبينا:  أتذكر أني ذات يوم ، أغمضت عينيّ وجربتُ أن أسمع مقاطع متنوعة منها، ومع كل آلة من تلك الآلات كانت روحي تلوذ بصمت رهيب، وتسافر في عمق الماضي، لا أدري لماذا الماضي بالتحديد، فقد جرني الخيال بيده، وسافر بي لأيام طفولتي وصباي ومراهقتي، حتى أنه ذكرني بأيام كنت قد نسيتها، مرة يجدد مواجعي حين يعرض لي أيام مرارتي وألمي، وأحياناً أخرى يكشف لي عن لحظات الفرح وساعات المسرة، هي هكذا الموسيقى رهيبة لدرجة لا يمكن وصفها بكلمات، هي مزيج من سحر وبهجة ودموع وبكاء.
وحين تعلقت بها، صرت لا أعرف الكتابة من دون أن أسمع شيئاً يستفز مشاعري ويمنحني دفق الحروف، بل ويجدد ذاكرتي ويشحذ صورها في استنطاق الكلمات والصور المخزونة في المخيلة والذاكرة العتيقة، هكذا حين أسمع شيئاً منها تنفلت السطور سطراً من بعد سطر إلى أن يتشكل النص، نحن الجنوبيون مذ خلقنا الله على هذه الأرض ، ونحن نعشق الحزن، جيناتنا لا تعرف للفرح طريقا أبداً، لذا نميل كل الميل إلى النوتات التي تبث الأسى في النفس والروح، ربما لأننا مضطهدون على الدوام على أعقاب تاريخ الحكومات التي مرت علينا، فصرتُ كلما ركنتُ إلى نص ما، أطلقت العنان لعازف العود ليبث الحزن في داخلي، كي أكتب بمصداقية عالية، فهي من تبعثر في
داخلي ركام النفس ، وتوقد شرارة الألق في ذاتي .
لا فرق بين أن تكون عازفاً على آلة موسيقية، وبين أن تكون عازفاً على الورق تترجم وجع الأوتار وأنت تمسك بين أناملك قلمك كعازف يمسك ريشته ويلون الأوتار بألوان زاهية ممزوجة ما بين الوجع والحزن معاً.
لا يمكن لنا أن نقول بأن آلة ما مختصة بجنس معين من الأجناس الأدبية، ولا مرحلة معينة من مراحل الحياة، فالموسيقى لا تتوافق مع الجنس الأدبي أو في مرحلة ما، بل تتوافق مع النفس البشرية التي تكتب جنساً معيناً، شعراً كان أم قصة أم رواية، لأن الموسيقى تستنطق الروح وتحفر عميقاً في الذاكرة، لتستخرج ما مخزون بها من أشياء جاهزة للكتابة والإبداع.

واحدة من ركائز الحياة
الشاعر محمد حسين الفرطوسي، أشار في حديثه إلى أهمية الموسيقى في حياة الإنسان بشكل عام، انطلاقا من وجودها الطبيعي في الحياة، المتمثل بإيقاع الكائنات والفعاليات الطبيعية في الأرض، كحركة الريح واهتزاز الأشجار وأصوات الحيوانات والإنسان،  والشلالات والأنهار والسواقي والرعد، وما إلى ذلك، لافتا إلى أن هذه الفعاليات، هي المادة الأولية التي كانت سببا لذهاب الإنسان نحو صناعة أصوات أخرى، تواكب جمال الكائنات على الارض أو تتفوق عليها، أو تترجمها إلى حد ما، وأضاف الفرطوسي قائلا: لم تعد الموسيقى تلك الحاجة التكميلية في الحياة الانسانية، بل أصبحت واحدة من الركائز المهمة في زمننا المعاصر، فقد دخل في حياة الإنسان من كل الجوانب، إذ لا يمكن أن تتصور السينما او المسرح أو الغناء او الدراما أو الفنون الإعلامية بكل تنوعها من دون موسيقى ، أما الموسيقى بوصفها فنا خالصا فهي قائمة ومؤثرة وداعمة للنفس البشرية بتنوع كبير، فقد أصبحت جزءا لا يتجزأ من حياة المبدع، فهي من جانب تمثل غذاء روحيا مختلفا، ومن جانب آخر، تدخل في مضامير عمله وإبدلاعه بشكل أو بآخر ، فكم من مبدع لا يستطيع الكتابة الا بمرافقة الإصغاء للموسيقى، وكم من مثقف، يتخذ من العود أو الكمان رفيقا، فلا يهدأ إلا من خلال ملامسة أصابعه لأوتاره، كأنه يفرغ على تلك الأوتار أسرار حزنه أو فرحه.
الموسيقى جزء فاعل  في حياة الإنسان، فقد دخلت قديما وما زالت في الطقوس الدينية، وصارت الآن واحدة من الفعاليات الطبية، إذ أخذ بعض الأطباء يستخدمونها في علاجاتهم النفسية. الموسيقى حياة كاملة لابد من وجودها.