أولمبياد باريس يقود ثورة خضراء للمدينة
أيرلين بريدين، روان مور
ترجمة: مي اسماعيل
تعهد منظمو دورة أولمبياد باريس 2024 التي ستقام خلال هذا الصيف بأن تكون هي الحدث الرياضي الأكثر استدامة؛ فهل تنجح خطط تعزيز سير المشاة والدراجات وزيادة التشجير وتقليل السيارات في تعزيز فكرة البيئة النظيفة؟
تقدم المدن كل أربعة اعوام موكبا مبهرا من الحلي المعمارية لأنظار العالم؛ من خلال الملاعب ومضامير السباق، فضلا عن مبانٍ متنوعة لإستضافة دورة الألعاب الأولمبية.. غير إن السؤال الذي يثار مع كل مرة يقول: ما الذي سيحل بتلك المنشآت بعد انتهاء أسابيع المجد القصيرة؟
تكمن الاجابة المتفاوتة بين هياكل دورة أولمبياد أثينا للعام 2004 (التي صارت صدئة) الى تحوّل ملعب لندن منشأة رياضية بأن يصبح موقعا لإحدى نوادي كرة القدم الكبيرة.
أما باريس فتَعِد بمنظور مختلف للحدث؛ إذ إن أغلب الفعاليات ستجري في منشآتِ موجودة فعليا؛ ومنها- ملعب فرنسا (الذي كان قد بُنيَ لإقامة مباريات بطولة كأس العالم للعام 1998)؛ كما إن منشآت مؤقتة وسط المدينة ستستقبل فعاليات أخرى. كما ستُقام بعض المباريات أمام برج ايفل، أو ساحة الكونكورد، وسيكون حفل الافتتاح عبارة عن مسيرة نهرية تمتد إلى طول ستة كيلومترات.
{إعادة احتلال السين}
يقول لاعب الركبي السابق “بيير رابادان”، الذي يشغل الآن منصب نائب عمدة باريس إلى جانب كونه المسؤول عن الرياضة والألعاب الأولمبية؛ إن المشروع “الرمزي” للألعاب لا يمثله مبنى معينا على الإطلاق؛ بل “بإعادة احتلال” نهر السين.. إذ جرى تنظيف النهر لأجل أن تُقام فيه مباريات السباحة الرياضية وسباحة الجمهور.
هذا جزء من المشروع الوطني والإقليمي والمديني وقيمته نحو مليار واربعمئة مليون يورو (ما يعادل أكثر من مليار ونصف مليار دولار) لغرض تنظيف النهر بدءا من منبعه وصولا الى المصب في البحر، لكي يكون صالحا للسباحة.
وتعزيزا لحلم “آن هيدالغو” عمدة مدينة باريس بأن تتحول المدينة الى ما يمكن تسميته بالصيغة الأكثر مبالغة: “المدينة الكبيرة الأكثر خضرة في أوروبا”. تطمح هيدالغو ايضا إلى جعل باريس جنة للحياة الصحية قليلة التلوث، صديقة للمشاة والدراجات الهوائية، مع تنمية الحياة الاجتماعية. وهذا مسعى طويل الامد تعود بدايته إلى ولاية العمدة السابق (برتراند ديلانوي، 2001 - 2014)؛ بيد أن دورة الأولمبياد قدمت له دفعة إلى الأمام في مواجهة ما يسميه رابادان.. “الكثير من المقاومة السياسية”؛ لكن الألعاب الأولمبية.. “أعطتنا الفرصة لتسريع التحول الذي نحتاجه”.
شمل مشروع الثورة الخضراء إزالة حركة المرور من ضفتي نهر السين (التي وِجِدت منذ عقد الستينيات في القرن الماضي)، وباتت الفضاءات العامة المهمة تدريجيا أكثر ملاءمة لحركة المشاة؛ كما هو الحال مع ساحتي الجمهورية والباستيل.
ومن جهة اخرى، تجري عملية زراعة “غابة حضرية” في منطقة ساحة كاتالونيا لما يزيد عن 478 شجرة؛ وهي عبارة عن دوّار مروري كبير يقع قرب محطة مونبارناس. وهُناك خطط أخرى تقضي بأن يكون شارع الشانزيليزيه.. “حديقة استثنائية” وصديقا للمشاة.
تشمل خطط دعم حركة المشاة ايجاد طرق لقيادة الدراجات بطول اكثر من ألف كم، فضلا عن زراعة مئتي ألف شجرة جديدة. وضمن مبادرة “باريس تتنفس” تم إتباع سياسة غلق بعض شوارع المدينة بوجه حركة المرور الآلية لمدة يوم واحد من كل شهر وقد تم تحديده بأحد أيام عطلة الأحد في الشهر؛ وهو ما يجري منذ العام 2016.
وهناك مقترحات لزيادة رسوم وقوف سيارات الدفع الرُباعي إلى مستوى ثلاثة أضعاف الرسم المدفوع وكذلك إخلاء الشارع أمام المدارس من السيارات لصالح تجمُّع الأطفال والأهل، وخلق شوارع بيئية والاستعاضة عن مناطق وقوف السيارات بالأشجار ووضع مقاعد الجلوس لغرض الاستراحة، وغيرها من الخدمات البيئية.
مدينة مُتخمة بالنُصُب
لم تحظ جميع هذه المشاريع بالرضا العام لدى الجمهور؛ خاصة في ما يتعلق بإقفال بعض الشوارع بوجه حركة السيارات.
وشنَّ معارضون (مجهولو الهوية) حملة على منصة “أكس” أشارت إلى مواضيع اخرى أكثر إلحاحا من طموحات العمدة هيدالغو الخضراء؛ على سبيل المثال: الاهتمام بالنظافة في المدينة ووتنظيم عمل الباعة المتجولين وإعمار مناطق ضواحي العاصمة. لا جدال ان نوعية التدخلات التصميمية هنا لا ترقى الى ما شهدته باريس القرن التاسع عشر من تخطيط الشوارع وتأثيثها والمتنزهات، وما تلاها من تصاميم الفن الحديث لمداخل محطات المترو.
ويبدو أن تصاميم اليوم تحمل طابع الارتجال، ومن جهة اخرى تسعى مساحات التشجير الصغيرة وتكافح من أجل النمو وسط فضاءات التبليط الواسعة. ويرى “إيمانويل غريغوار” نائب عمدة المدينة المسؤول عن التخطيط الحضري أن بعض تلك الترتيبات (على الأقل) مؤقتة، وسيجري تحسينها في المستقبل المنظور، وأن أولوية التطوير كانت لإنجاز الأمور؛ قائلا: “إذا انتظرت شيئا ما حتى يصبح مثاليا؛ فإنك ستنتظر إلى وقت طويل جدا”.
لا شك أن ظهور زيادة كبيرة في مسارات الدراجات وطرق المشاة على الضفاف والسباحة في النهر كلها ينظر إليها بوصفها انجازات بارزة. ومن الصعب أن ننتقد قرار الاستفادة القصوى من الأصول الحضرية الكبيرة للمدينة، بدلاً من إضافة نُصُب معمارية جديدة.
خلال عقود الثمانينيات والتسعينيات زار الناس مدينة باريس، لكي يطلعوا على مشاريعها الفخمة والتي منها: هرم اللوفر، و”القوس المكعب العملاق” في لا ديفانس، ومبنى “أوبرا الباستيل”؛ وجميعها كانت من بنات أفكار مركز جورج بومبيدو (الرئيس الفرنسي الراحل) وبرج إيفل.
أما الآن فنرى شجيراتٍ ومسارات للدراجات.. ولو أخذنا بالاعتبار أن باريس متخمة بالفعل بالنُصُب؛ فان الرغبة الحالية بجعلها أكثر متعة وصحة لمواطنيها تبدو أمرا صحيحاً تماماً..
ذهب وفضة وحديد..؟
سيأخذ أبطال الرياضة الفائزون بميداليات الألعاب الأولمبية المقبلة في فرنسا الصيف المقبل معهم قطعة من أهم معالم مدينة باريس؛ وهو: برج إيفل. ولن تقتصر تلك الميداليات على الذهب والفضة التقليديين؛ بل غنها ستحتوي على قطعة من الحديد المأخوذ أصلا من برج إيفل ذاته. وقد أعلن منظمو الألعاب الأولمبية الصيفية والبارالمبية لعام 2024 أن الميداليات (وعددها 5084) ستحمل على أحد وجهيها قطعة مسدسة الشكل من البرج الشهير. ويقول “توني استانجيه” رئيس اللجنة المنظمة لأولمبياد باريس 2024: “كان على تلك القطع الاستثنائية أن تتحد برمز قوي آخر من بلدنا وعاصمتنا”. ومضى السيد إستانجبه قائلا إن قطع الحديد المستخدمة في الميداليات كانت قد أعيد تدويرها من أجزاء من البناء الأصلي لبرج إيفل الذي بني في العام 1889؛ والتي كانت مخزونة داخل أحد المستودعات بعد أعمال التجديد. وبعد ازالة الطلاء الأصلي ذي اللون البُني عنها وصقلها من جديد؛ سيكون وزن قطعة الحديد الواحدة نحو 18 غراما؛ أما تشكيلها بشكل سداسي فإنه يحاكي شكل خارطة فرنسا. وسيجري تثبيتها (مختومة بـكلمات: “باريس 2024” وشعار الألعاب) على الميدالية بمخالب على شكل مسامير برج إيفل، بإستخدام تقنية مشابهة لتلك المستخدمة عند تثبيت الأحجار الكريمة في المجوهرات، تحيط بها حافات مُضلعة من الخطوط الشعاعية المصممة لتعكس الضوء؛ إشارة إلى لقب باريس: “مدينة النور”.
أما “مارتن فوركيد”، البطل الأولمبي الذي سجل لقبه خمس مرات ورئيس لجنة الرياضيين في أولمبياد باريس 2024 فقد قال: “أردنا أن تكون هذه الميدالية جميلة ورمزية؛ وما الأكثر رمزية من إعادة قطعة من تراث فرنسا إلى وطنك..”.
وعلى الوجه الاخر من الميداليات؛ المصنوعة من مواد تمت إعادة تدويرها فهي خاضعة للمواصفات الخاصة المفروضة من اللجنة الأولمبية الدولية؛ كما ستتنوع النقوش والشعارات. وسيحمل بعضها رموزا تقليدية للألعاب الأولمبية، ومنها- “نايكي-Nike» إلهة النصر اليونانية، والأكروبوليس في أثينا، إلى جانب نقش برج إيفل.
أما ميداليات الألعاب البارالمبية فستكون مختلفة؛ إذ ستضم صورة من زاوية منخفضة من تحت برج إيفل، كما إن عبارة “باريس” و”2024” ستكون مكتوبة بطريقة برايل؛ وهو نظام الكتابة الخاص بضعاف البصر على اسم الفرنسي “لويس برايل”. وعلى حافاتها توجد شقوق: شق واحد للميدالية الذهبية، وإثنان للفضية وثلاثة للبرونزية.
على امتداد تاريخ الالعاب الأولمبية كان للمُنظِمين خيار الاشارة الى حضارة وتراث أمتهم في تصاميم الميداليات؛ ففي أولمبياد بكين للعام 2008 كانت الميداليات مطعمة بقرص من حجر اليشم “jade”.
لكن اعلان باريس كان الاول من حيث استخدام أجزاء فعلية من أحد نُصُب المدينة في الميداليات. ويجري الآن تصنيع الميداليات في “Monnaie de Paris”؛ وهي دار سك العملة الرسمية بباريس، ومن تصميم احدى دور تصنيع المجوهرات العريقة.
صحيفة نيويورك تايمز الأميركية، والغارديان البريطانية