التطورات العقلية للرؤساء الأميركيين

بانوراما 2019/06/10
...

جود شيرين
ترجمة: خالد قاسم
دونالد ترامب ليس أول رئيس أميركي يوصف بالمعتوه. لكن كثيرين ممن سبقوه يقال أنهم عاشوا حالات صحية عقلية تراوحت بين القلق الاجتماعي والاختلال ثنائي القطب، بل أن بعضهم كانوا مرضى نفسيين.
جرت الأمور بشكل سيئ جدا بالنسبة للثوار خلال الحرب الأميركية في العام 1776 الى درجة أن جورج واشنطن، الذي سيكون لاحقا الرئيس الأميركي الأول، حاول الانتحار. ومع هروب جنوده مذعورين عند خليج كيبس في مانهاتن، انهار القائد بحالة من الجمود الحركي وفقا للمؤرخ رون شيرنو.
اكتفى جورج واشنطن بالجلوس على صهوة حصانه محدقا بالفضاء مع هجوم عشرات الجنود البريطانيين عليه عبر حقل ذرة. وسرعان ما أمسك مساعدوه بالحصان وقادوه بصعوبة الى بر الأمان.
فيما بعد، قال أحد ضباطه وهو ناثانيل غرين أن واشنطن كان "منزعجا جدا من الأداء المشين لجنوده ولذلك أراد الموت بدلا من الحياة." يلخص الانهيار العاطفي لواشنطن كيفية انكسار أكبر القادة تحت الضغط. 
بعد مرور قرنين ونصف على تلك الواقعة، لا تزال الحالة الذهنية للرؤساء اللاحقين تخضع الى تدقيق أقل تسامحا. وحظي الطب النفسي الرئاسي بصخب كبير منذ دخول ترامب البيت الأبيض. ووصل الأمر الى تخصيص مطبوعات أدبية لوضع الرئيس الخامس والأربعين على سرير المرض.
من بين تلك العناوين نذكر على سبيل المثال: (الحالة الخطيرة لدونالد ترامب: 27 طبيبا نفسيا وخبيرا بالصحة العقلية يقيمون الرئيس)، و(الرجل الصاروخ: الجنون النووي وعقل دونالد ترامب)، و(خطر واضح وحالي: النرجسية في عهد دونالد ترامب)، و(فجر الصحة العقلية الأميركية: طبيب نفسي يحلل عصر ترامب).
 
سجل حافل
لكن ترامب الذي يصر على عبقريته المستقرة للغاية، ليس أول رئيس أميركي يجد نفسه متهما بالاختلال العقلي. اذ وصِف جون أدامز ثاني رؤساء أميركا "بالمجنون تماما في بعض الأحيان" كما قال منافسه جيفرسون. 
افترضت إحدى مجلات علم النفس أن الرئيس ثيودور روزفلت "سيسجل في التاريخ واحدا من أكثر الأمثلة النفسية اللامعة على تشوه العمليات الذهنية الواعية." أثناء حملة روزفلت خلال العام 1912 للعودة الى الرئاسة، قال المؤرخ الأميركي المعروف هنري أدامز أن: "عقله تشظى الى قطع... وقد ينتهي اضطرابه العصبي بالانهيار، أو الهوس الحاد."
بعد اصابة الرئيس وودرو ويلسون بجلطة، ادعى منتقدوه أن البيت الأبيض أصبح مصحة عقلية، وأشاروا الى وضع قضبان على بعض نوافذ الطابق الأول من القصر الرئاسي. لكن جون ميلتون كوبر ذكر في كتابه عن سيرة ويلسون أن تلك القضبان وضعت أصلا خلال رئاسة تيدي روزفلت لمنع أبنائه الصغار من كسر النوافذ بكرات البيسبول.
مع ذلك، وفقا لتحليل نفسي شمل أول 37 رئيسا أميركيا كان أدامز وروزفلت وويلسون مصابين بحالات صحية عقلية فعلية. وقد نشرت الدراسة سنة، 2006 وتوقعت أن 49 بالمئة من الرؤساء أصيبوا بمرض ذهني خلال مرحلة ما من حياتهم (وهو رقم قال الباحثون أنه يتناسب مع المعدلات الوطنية). ووجدت الدراسة أن 27 بالمئة منهم أصيبوا أثناء توليهم المنصب.
وذكر فريق من المركز الطبي لجامعة ديوك في كارولينا الشمالية أن ربعهم تنطبق عليهم معايير الكآبة، ومنهم وودرو ويلسون وجيمس ماديسون. واستنتجوا أيضا أن تيدي روزفلت وجون أدامز أصيبا بالاختلال ثنائي القطب، أما توماس جيفرسون ويوليسيس غرانت فلديهما قلق اجتماعي.
يقول البروفيسور جوناثان ديفيدسون، رئيس فريق البحث: "الضغوط الناجمة عن هذا المنصب قد تخلق قضايا كانت كامنة لدى شخص ما، إذ ان تولي الرئاسة مجهد للغاية ولا يوجد أحد لديه طاقة غير محدودة لتسنمها دوما وأبدا."
عانى ويلسون من الجلطة عام 1919 خلال الصراع المرير لإقرار معاهدة فرساي. وتسبب المرض بشلل ويلسون، وأصبح مبتلى بالكآبة وجنون الاضطهاد حتى نهاية رئاسته سنة 1921. وأدارت السيدة الأولى إيديث ويلسون شؤون البيت الأبيض فعليا، تاركة المعارضين يستنكرون بسبب "حكومة التنورة".
 
شلل الفجيعة
يعتقد أن رئيسين آخرين دمرا تماما بسبب كآبة سريرية، ويذكر البروفيسور ديفيدسون أن اختلالا كئيبا كبيرا أصاب كلا من كالفن كوليج وفرانكلن بيرس، ما جعلهما غير كفوءين بعد وفاة ابنيهما. 
فقد عانى الرئيس الديمقراطي بيرس من مأساة رهيبة قبيل تنصيبه عام 1853، وكان الرئيس الرابع عشر مع زوجته جين وابنهما بنجامين على متن قطار عندما انحرفت عرباته عن السكة قرب مدينة أندوفر ضمن ولاية ماساشوستس. فقذفت العربة الى أسفل أحد السدود ومات الابن فورا، وكان يبلغ من العمر 11 سنة وهو الوحيد لوالديه. كتب فرانكلن بيرس الى وزير دفاعه جيفرسون ديفيز: "كيف يمكن لي أن أستجمع رجولتي وطاقاتي لكل الواجبات الملقاة على عاتقي، يصعب علي رؤية ذلك."
يذكر البروفيسور ديفيدسون أن عذاب بيرس الداخلي دفعه الى التخلي عن أي دور تنفيذي حقيقي مع انزلاق البلاد نحو الحرب الأهلية. وكان الرئيس الوحيد المنتخب الذي يعاني بمحض ارادته من اهانة حزبه بعد ترشيحه في الانتخابات القادمة.
اسهم حزن بيرس، الى جانب ضغط رئاسة البلاد التي كانت على حافة الهاوية، بتفاقم ادمانه طويل الأمد على الكحول، وتوفى نتيجة أمراض متعلقة بتليف الكبد كما قال المؤرخ مايكل هولت. أما كالفن كوليج فتولى المنصب زعيما متفائلا وحيويا ومجتهدا. لكنه تغير عندما حل صيف 1924، حيث ذهب ابنه كالفن جونيور البالغ من العمر 16 سنة للعب في ملعب تنس البيت الأبيض مرتديا حذاء رياضيا بلا جوارب، وأصيب الفتى بتقرح في اصبعه وتطورت الحالة الى وفاته بتسمم الدم.
ازداد سلوك كوليج غرابة، وانفجر غاضبا أمام الضيوف والمساعدين وأفراد العائلة. وخلال إحدى وجبات عشاء البيت الأبيض، تركز اهتمامه على لوحة للرئيس جون كوينسي أدامز وعلق قائلا: أن رأس الرئيس يبدو لامعا جدا. ثم أمر أحد الخدم بفرك قطعة قماش برماد الموقد وأن يصعد على السلّم ويمسحها باللوحة لتعتيم رأس أدامز.
 والواقع أن جون كوينسي أدامز أيضا كان يعاني من الكآبة، واعتاد على التجول حول البيت الأبيض ولعب البليارد وازعاج زوجته البريطانية المولد، وفقا لسيرة شخصية أعدها هارلو أونغر.
انسحب كوليج تقريبا من الحياة السياسية، وأكثر ما أثار القلق جهله بأجراس الإنذار الاقتصادية قبل سنة من انهيار بورصة وول ستريت عام 1929. وخلال نقاشات تعلقت بكبح جماح مضاربات الأسهم الجامحة، رد كوليج على المراسلين: "لا أعرف ما هو القانون أو فقراته أو النقاش الدائر." وكتب في سيرته الذاتية: "عندما رحل ابني، ذهبت معه قوة ومجد الرئاسة.. لا أعلم سبب فرض مثل هذا الثمن مقابل شغل البيت الأبيض."
 
تجارب قاسية
نجح رؤساء آخرون بتخطي محنتهم، اذ حارب ثيودور روزفلت الكآبة الحادة منذ وقت مبكر من حياته السياسية بعد وفاة زوجته الشابة ووالدته في عيد الحب سنة 1884. ومكث روزفلت عامين في أراضي وعرة بولاية داكوتا الشمالية، حيث أنشأ مزرعة مواشي، واصطاد الجاموس، واعتقل اللصوص، وضرب شخصا يحمل السلاح في صالون.
أما أبراهام لنكولن، فكان عرضة للسوداوية طيلة أيام حياته، كما ذكر المؤرخ ديفيد هيربرت دونالد. ففي العام 1841 أثناء عمله مشرعا بمجلس ولاية إلينوي، فسخ خطوبته مع ماري تود (لكنهما تزوجا فيما بعد) وأصيب بكآبة عميقة. وراقبه أحد أصدقائه خشية عليه من انتحاره، فأزال كل السكاكين وشفرات الحلاقة من غرفته. ومن المؤكد أن مساعديه شعروا بالخوف بسبب مزاجه النكد من كيفية تعامله مع وفاة ابنه ويلي (11 سنة) خلال الحرب الأهلية الأميركية بعد اصابته بحمى التيفوئيد أواسط شباط 1862.  
وخلال السنة نفسها، وبعد هزيمة مذلة في معركة "بول ران" الثانية، أخبر لنكولن وزراءه بشعوره بالاستعداد للانتحار شنقا، غير إنه وعلى الرغم من حزنه الشديد، نجح الرئيس السادس عشر في الحفاظ على نفسه ودولته متماسكتين.
انتظر لنكولن حتى بعد وفاة ابنه ليقيل قائد جيشه المتذبذب جورج ماكليلان، ونصّب مكانه شخصا كئيبا وخجولا وشديد الحساسية من منظر الدماء، وهو يوليسيس غرانت؛ الذي قاد جيش الاتحاد لتحقيق النصر.
 
رؤساء مجانين
على الرغم من وصمة العار المستمرة للمرض العقلي، لكن بعض الخبراء يعتقدون أنها قد تساعد بعض الزعماء، الى حد ما. وجدت دراسة نشرها علماء نفس من جامعة إيموري في جورجيا سنة 2012 أن عدة رؤساء أظهروا سمات جنونية ومنهم بيل كلنتون. أكثر رئيسين ظهرت عليهما تلك العلامات هما ليندون باينس جونسن وأندرو جاكسن. أما السمات الجنونية التي حددها الفريق الجامعي فهي :السحر السطحي والأنانية وعدم الأمانة والقسوة وحب المخاطرة وضعف السيطرة على الاندفاع والجرأة. وغطى البحث جميع الرؤساء باستثناء دونالد ترامب وباراك أوباما. على سبيل المثال، كان جونسن مغرورا بحجم ولايته الأم؛ تكساس. واستحوذ بوقاحة على مقعده في مجلس الشيوخ عام 1948، وأطلق مزحة بلا خجل عن ذلك. كما اعتاد على إهانة مرؤوسيه عبر استدعائهم لتلقي الأوامر وهو في الحمام.
عموما، ربما تسبب جونسن بفشله السياسي بعد أكاذيب طرحها على الشعب الأميركي بشأن مناوشة بحرية مزيفة وسط خليج تونكين عام 1964. واستغل جونسن الحادثة لتصعيد الحرب الأميركية في فيتنام، لكن اثناء هجوم فيتنامي كاسح بعد ذلك باربع سنوات أعلن جونسن عدم ترشحه لولاية ثانية.
أما أندرو جاكسن الذي وقع قانون التطهير العرقي ضد الهنود، فيتذكره الناس اليوم بسبب وحشيته، أكثر من انجازه الكبير باعتباره الرئيس الوحيد الذي سدد جميع الديون الوطنية. وتركت سمعة بيل كلنتون بحالة يرثى لها بسبب اندفاعه الجنسي.
تعامل بعض الرؤساء مع اجهادات المكتب البيضوي بشكل أضعف من غيرهم. فريتشارد نيكسون وحتى أثناء توليه منصب نائب الرئيس كان يتناول أدوية القلق والكآبة اضافة الى حبوب منومة يمزجها مع الكحول. وكتب المؤرخ جون فاريل بالتفصيل عن كيفية انفراد نيكسون بشرب الخمور طيلة فترة رئاسته المضطربة. وقال وزير خارجيته هنري كيسنجر أن الرئيس لم يستطع خلال إحدى المرات من الرد على مكالمة رئيس الوزراء البريطاني بشأن أزمة الشرق الأوسط، لأنه كان "ثملا".
معالجه النفسي الدكتور أرنولد هوتشنيكر هو اختصاصي الصحة العقلية الوحيد المعروف بعلاجه في البيت الأبيض، وذكر أن نيكسون لديه "مستوى كبير من الأعراض العصابية". لا يعتقد البروفيسور ديفيدسن أن ترامب مريض عقليا، ويذكر نقاشا جرى بين علماء النفس عالميا بشأن وضع النرجسية بوصفها إختلالا حقيقيا للشخصية، وهي صفة تنسب كثيرا للرئيس الحالي.
لكن عالم النفس ناصر غائمي يعتقد أن الرئيس ترامب لديه "أعراض هوس كلاسيكية، فهو لا ينام كثيرا، ويمتلك طاقة جسدية مرتفعة جدا. ومندفع للغاية تجاه الإنفاق والجنس، ولا يستطيع التركيز، وقد خدمته صفاته خلال حملته الانتخابية، اذ كان خلاقا للغاية."
رئاسة ترامب لها أعراف تاريخية متشظية، لكن الحياة الغريبة والقلقة للرؤساء السابقين تثير سؤالا مهما: ما هو الطبيعي؟
 
موقع بي بي سي البريطاني