في يوم البيئة العالمي.. أرض العراق وبيئته وشبابه ضمانة لمستقبل مستدام

ولد وبنت 2024/06/06
...

 أ. د جيهان بابان*

في الخامس من حزيران من كل عام تحتفل البشريَّة باليوم العالمي للبيئة الذي يطل علينا مع تزايد مظاهر وتأثيرات فوضى المناخ نتيجة ازدياد الاحتباس الحراري مع تراجع النظم البيئية المائية والجافة عالمياً واستمرار التدمير الممنهج للغابات في العالم والتي تعد رئة الكوكب لدورها المميز في امتصاص وتخزين نحو 30 في المئة من انبعاثات الكربون الناتجة عن الأنشطة البشرية نتاج التوسع الحضري وسياسات التنمية الصناعية والطرق الزراعية غير المستدامة والتي تؤدي إلى عدم الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي.
ويعدّ هذا اليوم الذي يقوده برنامج الأمم المتحدة الإنمائي منذ أول فعالية تم تنظيمها عام 1973, أهمَّ منصة عالمية لحشد الملايين من البشر لتنظيم برامج لتحسين البيئة والتوعية بضرورة الحفاظ على مكوناتها من هواء وماء وتربة ونظم أحيائية حيوانية وبشرية.
وهذا العام ستستضيف المملكة العربية السعودية هذا الاحتفال الذي ستنطلق منه الآلاف من المبادرات البيئية في جميع أنحاء العالم والعديد منها يتمحور حول التعامل مع حالة الطوارئ التي أعلنتها الأمم المتحدة لخفض انبعاث غازات الاحتباس الحراري إلى النصف بحلول عام 2030 وإبقاء درجة زيادة حرارة كوكبنا أقل من 1.5 درجة مئوية مقارنة بدرجة الحرارة قبل الثورة الصناعية في القرن الثامن عشر.
وما يميّز مبادرات هذا العام هو التركيز على مكافحة التصحر والجفاف وندرة المياه والشروع ببرامج استصلاح الأراضي والإدارة الفعالة للموارد المائية وحماية وإحياء النظم البيئية الحيوية والذي يتوافق مع الذكرى الثلاثين لاتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة التصحر.
وتمثل التربة عالماً أحيائياً فريداً بما تتضمنه من تريليونات من الكائنات المجهرية الحيوية وقدرتها على خزن كميات هائلة من الانبعاثات الكربونية والتي تواجه خطراً متزايداً بسبب إزالة الغابات وفقدان الغطاء النباتي لأغراض التوسع الزراعي والحضري.
ومن الضروري التفريق بين الصحارى الطبيعية مثل بادية السماوة والصحراء الغربية في العراق التي تلعب دوراً في امتصاص الكربون وتنظيم المناخ وتشكّل عالماً أحيائياً خاصاً يضم آلاف الأنواع من النباتات والثديات والزواحف والطيور المفصليات مثل العناكب والعقارب وظاهرة التصحر التي تعني تدهور الأراضي الصالحة للزراعة لأسباب طبيعية وبشرية ومن هنا يترتب على الحكومات اتباع ستراتيجية حماية الصحارى الطبيعية الموجودة وإعادة الحيوانات البرية إليها ولكن في ذات الوقت مكافحة التصحر.
وتتركز سياقات تحقيق أهداف هذا العام التي أطلق عليها "استعادة كوكبنا" على عدة محاور من أهمها عقد الشراكات الدولية للإفادة من الخبرات العلمية في مكافحة التصحر واستصلاح الأراضي وخاصة في استخدام التقنيات الحديثة ومنها الرقمية والذكاء الاصطناعي والرقابة والاستشعار عن بعد وتشمل أيضاً الشراكات على الصعيد الوطني بين القطاعات المختلفة ذات العلاقة وفي المجالين الحكومي والقطاع الخاص ومنظمات المجتمع المدني لرسم وتنفيذ برامج على الأرض لتقليل انبعاثات الكربون والميثان والتكيف مع تغير المناخ وحماية التنوع الأحيائي والنظم البيئية والتصدي للتلوث وتراكم النفايات مدعومة بتوفر المخصصات المالية الكافية وإدارة وحوكمة لتنفيذ هذه البرامج.
 وهناك دور أيضاً لكليات البيئة في جامعات العالم في تنظيم البحوث العلمية حول المخاطر التي تهدد النظم البيئية الريفية والحضرية كي تغني البرامج المتحققة على الأرض وتحدد وجهاتها الاستراتيجية المعتمدة على الأدلة والمعطيات العلمية الرصينة خاصة تلك المرتبطة بالبيئة العراقية.
ويؤدي شح المياه إلى تآكل التربة وانخفاض إنتاجيتها بينما تؤدي السيول والفيضانات إلى دمار الأراضي الزراعية نتيجة إزالة الطبقات العليا للتربة, إنَّ الجفاف سيؤدي إلى تآكل التربة وكذلك انخفاض غلة المحاصيل، في حين أنَّ الفيضانات والانهيارات الأرضية يمكن أن تدمر الأراضي الزراعية والبنية التحتية.
وقد التزمت 115 حكومة في العالم إصلاح ما يقارب مليار هكتار من الأراضي وخاصة الولايات المتحدة والصين والاتحاد الأوروبي والسعودية التي تحث على تشجيع مشاريع استثمارية ضخمة لاستعادة الأراضي على نطاق واسع في سياق مكافحة التصحر وتآكل التربة وتدهور الإنتاج الزراعي والتصدي للتجريف الجائر للغابات.
عراقياً لا يمكن إعادة عقارب الساعة إلى الوراء فما نشهده اليوم هو نتيجة عوامل مركبة طبيعية ومخلفات الحروب العبثية، تراكم نتائج الإهمال والتخريب المتعمد والنشاط الإرهابي الذي استخدم البيئة كسلاح ضد المواطنين ولكن توفر الظروف الحالية من الاستقرار السياسي وانتهاج سياسة حازمة للتنمية الاقتصادية والعمرانية الصديقة للبيئة والتي تحظى بدعم من رئاسة الجمهورية العراقية ورئيس مجلس الوزراء ووزير البيئة فرصة فريدة للمضي قدماً في تحقيق هدف استعادة الأرض التي امتد إليها التصحر والحد من فقدان المزيد من الأراضي الزراعية عبر السياقات المستدامة لحماية التربة والموارد المائية والنظم البيئية الحيوية ومن أهمها التنوع الأحيائي وحماية الغطاء النباتي الذي يجعل من الأرض مقاومة لتأثيرات العواصف الترابية والمياه.
ومن المقترحات العملية الملموسة التي من الممكن الشروع ببعضها والتي تسهم أيضاً في دعم المساهمة الوطنية العراقية الطوعية لتخفيض الانبعاثات والتكيف مع التغير المناخي ومع سياقات القطاعات الوزارية للحفاظ على البيئة وحمايتها وتعميق جوانب الاستدامة في خطة التنمية الاقتصادية والإفادة القصوى من الموارد المالية التي ستطلقها الميزانية الثلاثية ما يعني أنَّ قلة التخصيصات المالية لم تعد عذراً مقبولاً وألخصها بما يلي :
 إعداد أطلس تفصيلي يمثل مرجعية للأراضي العراقية مبني على تقييم ومراقبة التصحر والتملح بالاعتماد على النظم المعلوماتية التي توفرها الأقمار الصناعية وبرنامج نظم المعلومات الجغرافية الرقمية.
ويمكن أن يكون هذا أحد مشاريع الشراكة بين وزارة البيئة والزراعة والموارد المائية وإحدى كليات البيئة المتخصصة بتقنيات النظم الجغرافية الرقمية وبالاستفادة من الخبرات العالمية.
ضمان أن يتضمن التقييم البيئي للاستثمارات في الصناعات الاستخراجية مثل النفط والغاز والكبريت وغيرها تقييم المخاطر على التربة وأن تشمل العقود كلفة إصلاح ومعالجة الأضرار البيئية.
ويمتد ذلك إلى صناعات أخرى مثل الإسمنت ومعامل الطابوق ومعالجة النفايات والمشاريع العمرانية الكبيرة.
وضع ضوابط بيئية على مشاريع الاستثمار في الصحارى العراقية والرعي الجائر في السهوب العراقية حفاظاً على تنوعها الأحيائي وعلى الغلاف النباتي الذي هو أساس لحماية الطبقات العليا من التربة ويسهم في تخفيف حدة العواصف الترابية التي تسيطر على أجواء العراق وتؤدي إلى تدهور صحة المواطنين وخاصة جهازي التنفس والقلب.
حماية البساتين والنخيل والأشجار من التجريف الجائر الذي أصبح سلوك المافيات العقارية وبهدف تحويل جنسها وتقطيعها إلى مساحات سكنية وضمان تطبيق القوانين النافذة على المتجاوزين .
وبالتأكيد فإنَّ مشاريع الإسكان العملاقة في حال إنجازها ضمن القياسات والأهداف الموضوعة التي أعلنتها الحكومة قبل أشهر ستسهم كبيراً في التقليل من هذه الظاهرة عبر احتواء الضغط السكاني المتزايد.
اتباع سياقات علمية رصينة في مبادرات الزراعة والتشجير وهي مهمة جدا لأنها تعمل على تقوية التربة وتحسن من نوعيتها وأيضا تعمل كمصدات للعواصف الرملية والترابية وفي امتصاص الانبعاثات الكربونية خاصة في المناطق التي تم تجريفها بقسوة كما حدث في نخيل البصرة وبساتين وأشجار ديالى واعتبار ما تبقى ثروة وطنية.
ولضمان الرصانة والاستدامة في هذه المشاريع يمكن الاستثمار في عقد مع إحدى كليات الزراعة لإجراء بحث وتقييم علمي مدروس خاصة في استيراد أشجار أو نباتات غير عراقية لأنَّ في ذلك مخاطر عدة بسبب طبيعة جذور بعض الأنواع التي في بحثها عن الغذاء والرطوبة تحطم الأنابيب وتكسر الأرصفة في المناطق الحضرية.
وعلى ضوء الدراسات العلمية يتم تحديد موقع ونوع وعدد الأشجار ومتطلبات ديمومتها .
وعلى أساس هذه الدراسة العلمية يلعب القطاع الخاص ومنظمات المجتمع المدني وبالشراكة مع القطاع الحكومي الاتحادي والمحلي دوراً في التنفيذ بعيداً عن العشوائية والاجتهادات غير المسنودة علمياً.
صيانة الموارد المائية وإدارتها بشكل فعال والتي تحتاج إلى تنسيق عال بين الحكومة الفيدرالية والحكومات المحلية لتنفيذ السياقات التي أقرتها الضوابط القانونية في تنفيذ الخطة الوطنية في تحديث نظم الري والإرواء والسقي خاصة في مجال حصاد مياه السهول والسيول في فترة الأمطار ومياه البزل والصرف الصحي واستخدامها لأغراض السقي والتي مازالت موارد مائية ضخمة غير مستغلة بشكل كاف وترشيد استخدام المياه الجوفية خاصة بعد انخفاض الإطلاقات المائية من بلدان المصب إلى الثلث عما كان سابقاً.
 لوزارة الزراعة دور مهم في تحفيز توسيع استخدام طرق الري الحديث وتقنين استخدام السماد (وأحد مصادر انبعاث الغازات الدفيئة) بشكل يضر التربة كيمياوياً ويقلل من خصوبتها والاختيار الصائب للمحاصيل بما يتماشى مع خصوبة الأرض وقدرتها وإطلاق مبادرات وطنية لحماية البذور والأصناف النادرة مثلاً إقامة محمية نموذجية لزراعة رز العنبر في محافظة النجف تتبع الطرق الإروائية الحديثة والتكنولوجيا التي تضمن الاستدامة وتقلل من مخاطر التصحر ومن انبعاثات غاز الميثان.
تنظيم حملات توعية مدروسة وباتجاهين في المناطق الزراعية حول صحة التربة ومتطلبات حمايتها من التآكل والتملح والتغدق وتحسين نوعيتها وطرق الاستفادة من مياه الأمطار والسيول وعن طرق الزراعة المستدامة ومنها نوع المحاصيل التي يمكن زراعتها والطرق الحديثة في الزراعة التي تزيد الإنتاجية وتقلل مخاطر التصحر أما على صعيد المناطق الحضرية فالتوعية تركز على أهمية حماية الأشجار والمساحات الخضراء وزيادتها ومخاطر رمي النفايات في الحدائق والأنهر فضلاً عن الخطر المحدق ببيئة العراق جراء تغير المناخ وزيادة درجات الحرارة وشح المياه والتبعات الصحية الناجمة عنها والتي تصيب المواطن العراقي وأيضاً فقدان الأمن الغذائي.
وتهدف هذه السياقات إلى حشد الوعي المجتمعي والرأي العام الإعلامي حول أهداف هذه المبادرات ودور المواطن الذي يبدأ من البيت والمدرسة والكلية والجامعة وداعم للسياقات الوطنية وجهود وزارة البيئة والخطط الخدمية لحكومة العراق.

*خبيرة في علوم البيئة وهندسة الطاقة المتجددة والتغير المناخي
مؤسسة ورئيسة جمعية البيئة والصحة العراقية في المملكة المتحدة
 والمركز العراقي لهندسة الطاقة المتجددة والتغير المناخي