د.عبد الواحد مشعل
تنطلق فكرة المقال من مسألة أساسية أضحت تشغل بال العراقيين اليوم أكثر من أي وقت مضى، وهي :كيف يمكن أجراء تنمية بشرية متكاملة في ظل اقتصاد مأزوم مصدره الرئيس النفط ، والذي يخضع لتقلبات أسعاره العالمية، صعودا وهبوطا ، أمام غياب إي مبادرة أو رؤية حقيقية للانتقال لمرحلة الاقتصاد المنتج؟ وكيف يكون هذا الاقتصاد المنتج متحققا في ظل غياب آليات التنمية التي من أبرزها التعداد العام للسكان والإمكانيات التخطيطية اللازمة والمشاركة
الشعبية.
إن هذا الواقع الاقتصادي الأحادي المصدر قد أثقل كاهل الدول والمجتمع ، فكيف يكون الحال مع أي تطور عالمي في مجال الطاقة، ولاسيما ان كثير من التقارير الاقتصادية تشير الى أن العالم المتقدم اليوم يسعى بخطى حثيثة لإيجاد الطاقة النظيفة البديلة، فمراكز الأبحاث تعمل على قدم وساق في سبيل ذلك، مما يحتم علينا التفكير جديا في الخروج من دائرة الاقتصاد الريعي الى الاقتصاد المنتج وهي عملية ليست سهلة، إنما تتطلب تضافر الجهود المجتمعية والسياسية، و توظيف كل طاقة متوفرة لإجراء تنمية شاملة تنقل البلد الى مرحلة الحداثة، وبناء هياكل الاقتصاد الأساسية ابتداءً من توفر تكنولوجيا المعلومات والإنتاج الزراعي والصناعي الوطني، الى مرحلة الاكتفاء الذاتي لكل إنسان من مرحلة الطفولة الى الشيخوخة. إن ذلك يتطلب إجراءات قوية، لعل أبرزها توفر قاعدة بيانات متكاملة عن المجتمع مع توفر إرادة سياسية صلبة وموارد اقتصادية
كافية.
أن أي خطوة جادة في بناء تنمية وطنية ينبغي أن تبدأ بتقييم الواقع العراقي، تقييما واقعيا وحقيقيا ، والاعتراف بان اقتصاد هذا المجتمع يمر بفترة مأزومة بعد سلسلة من النكسات والنكبات التي مر بها البلد خلال تاريخه المعاصر، فتراجعت الزراعة والصناعة، ولم يعد المجتمع يعتمد في بنيانه الاقتصادي سوى على النفط في صادراته، بينما يستورد الغذاء والدواء واحتياجاته المختلفة من دول مختلفة، و قد انحصرت واجبات الدولة الاقتصادية بشكل كبير على تأمين مرتبات الموظفين والعاملين في قطاعاتها المختلفة حتى أصبح الحديث عن تنمية حقيقية في ظل اقتصاد ريعي(الاعتماد على النفط فقط) من دون أن تكون هناك رؤية اجتماعية متكاملة عن الواقع العراقي، سوى ضربا من الخيال، أو سرابا يتراءى أمام عينيه، دون أن يصل الى بر الأمان ،ومن اجل إعادة الثقة الى الإنسان العراقي ، وجعل الآمال تتراقص إمامه عينيه من جديد، لابد أن تتضافر الجهود الحكومية والشعبية بجدية عاليه نحو بناء تنمية إنسانية واسعة النطاق وبجدول زمني معلوم ، إلا أن السؤال الذي ينبغي أن يطرح في هذا المجال، ما هي القدرة المتوفرة لدى الدولة اليوم لتوظيف عائدات النفط في تنمية قادرة على تحقيق أهداف المجتمع، فضلا عن تحقيق أهداف التنمية التي وضعتها الأمم المتحدة حتى سنة 2030، من خلال بناء ستراتيجية تنموية قابلة للتحقيق، تبدأ بالبنى التحتية وتنتهي برفاهية المجتمع ككل؟.
أن تقيم علمي موضوعي لمسألة تعطل التنمية في العراق في ظل اقتصاد ريعي ( كواقع حال ) ،يقودنا الى توقع الى نتائج مستقبلية وخيمة أذا ما نضب النفط أو انخفضت أسعاره الى مستوى يوازي أو يرتفع قليلا من تكلفة أنتاجه، لاسيما والعالم اليوم يحث الخطى اتجاه إيجاد مصادر جديدة رخيصة للطاقة، ربما ستكون جاهزة الاستخدام خلال العقود القليلة القادمة، فعندئذ كيف يتمكن المخطط التنموي أن يضع أسس قوية لتنمية واعدة تحت تأثير اقتصاد ريعي متذبذب الإيرادات؟
أن هذا الواقع يستدعي من الحكومة الإسراع في تنفيذ البرنامج الحكومي الذي طرحه رئيس مجلس الوزراء على أسس مدروسة وبخطوات راسخة مع الأخذ بنظر الاعتبار كل التحديات التي تواجه الإنسان العراقي والاحباطات الكثيرة التي يعاني منها.
أن ذلك يكشف لنا عن جوهر العلاقة الجدلية بين التنمية وتوفر الإرادة الوطنية في تطويع الإمكانيات المتوفرة للوصول الى تحقيق مستوى مقبول من الاقتصاد المنتج الذي يدفع بالعراق الى التقدم والتطور وجعله يوظف إنتاجه الصناعي والزراعي في الاكتفاء الذاتي، وفي النشاط التجاري بأوسع أبوابة وقد استند الى أيديولوجية أو فلسفة اجتماعية واقتصادية وطنية تطرح التجربة التنموية العراقية ليس فقط على النطاق المحلي إنما على النطاق الإقليمي أيضا، والعراق قادر على تحقيق هذا الدور، لاسيما وهو يمتلك الإمكانيات التخطيطية والعلمية والإمكانيات البشرية والثروات الطبيعة الهائلة، فضلا عن التفاعل مع التجارب التنموية الإقليمية والعالمية والاستفادة منها، لاسيما تلك التجارب التي أجريت في مجتمعات مأزومة مثل اليابان . وعلية ينبغي التفكير جديا في وضع التنمية في اعلى أولويات الدولة وعلى وفق فلسفة تعبر عن الإرادة الوطنية العراقية ،على أن تقوم المعالجة على وفق التطور العلمي والتكنولوجي والمعلوماتي الهائل الذي حققه الإنسان المعاصر، بما يجعل الإنسان العراقي متفاعلا مع المعطيات الحضارية المتحققة على المستوى العالم المتحقق وبما يفسح المجال أمام الإنسان العراق من العبور من الاقتصاد الريعي الى الاقتصاد المنتج، بما يتيح للعراق من دخول مرحلة جديدة من التطور الثقافي والاجتماعي، يكون بها مستعدا لمواجهة كل الأزمات الاقتصادية والاجتماعية التي يتعرض لها المجتمع حاضرا
ومستقبلا.