حرائق الحقول الغامضة في سوريا والعراق

العراق 2019/06/10
...

ليز سلاي/ عن صحيفة واشنطن بوست *
ترجمة/ انيس الصفار
كان المفترض بهذا العام أن يكون عام وثبة الحياة وعودتها الى المزارعين في مناطق شرق سوريا والعراق، فلأول مرة منذ عقد من الزمن لا تتدخل الحرب ولا الجفاف لإحباط ما بدا وكأنه موسم زراعي مبشر يعد بحصاد وفير. على امتداد المشهد المترامي تتماوج الحقول عن يسار ويمين بسنابل كالذهب بدلاً من المقاتلين المتشددين الذين عاثوا فساداً في ارض هي الأخصب في المنطقة وهي التي اشتهرت على مر القرون بأنها سلة خبز العالم المعروف بأسره.
ثم جاءت حرائق الحقول .. حرائق غامضة القيت تبعتها على ما يسمي "الدولة الاسلامية"، أو "داعش". لقد اعترف التنظيم نفسه بالمسؤولية عنها بالفعل، ولكنها قد لا تكون كلها من فعل هؤلاء المتشددين بالكامل.
 
منذ مطلع شهر أيار الماضي أخذت النيران تندلع في عشرات الوف الايكرات من الاراضي الزراعية عبر مساحات شاسعة تمتد من الحدود الايرانية شرقاً الى سواحل البحر المتوسط غرباً. آثار الحريق والسواد الممتدة على عرض المشهد تمكنت الاقمار الاصطناعية من رصدها، وأعمدة الدخان المتصاعد ملء الأفق أعادت الى الاذهان صور طيران التحالف بقيادة الولايات المتحدة وهو يقصف معظم تلك المناطق قبل بضع سنوات من هذا اليوم.
ضياع الريع الموعود بالنسبة للمزارعين الذين عانوا سنوات من الحرمان والتهجير حمل نذر معاناة جديدة وربما فصلاً آخر من النضال لمجتمعات كانت تمني النفس بأن نهاية الحرب قد لاحت في الافق.
محمد عباس الجغجاغ،" 75 عاماً" وهو مزارع عربي من قرية تل ابطخ الصغيرة الواقعة قرب بلدة تل حميس السورية فقد كل محصوله في الحريق الذي شب في يوم 6 حزيران. يقول محمد: "عائلة بأكملها .. اربعة وعشرون فرداً .. كانوا يعدون الايام بانتظار الحصاد، ثم ضاع كل شيء." وفي الخارج تترامى حقوله المتفحمة على مد البصر. يمضي محمد قائلاً: "لم نحضَ بمحصول طيب كهذا منذ 10 سنين، واليوم لم نعد نملك شيئاً."
تلك النيران تذكير بأن "داعش" لا تزال محتفظة بقدرتها على ايقاع الفوضى والاذى، بأقل جهد كما يبدو، مستغلة اجواء مظالم ونزاعات لم يحسم أمرها، نزاعات هي التي ساهمت في ظهور "داعش" أول مرة وهي التي يمكن ان تساعدها على النهوض من جديد.
أكدت "داعش" مسؤوليتها عن الحرائق التي اندلعت في البداية وراحت تحث انصارها ومؤيديها على اشعال المزيد منها. قال بيان "داعش" الذي بث عبر النشرة الأخبارية للتنظيم المسماة "النبأ": "موسم الحصاد لا يزال طويلاً، ونحن ندعو جند الخلافة ونقول لهم أمامكم ملايين الدونمات من الاراضي المزروعة بالحنطة والشعير وهي ملك للكفار".
أعقبت ذلك موجة عاتية من الحرائق. فمنذ ابتدائها بلغت مساحة حقول الحنطة والشعير التي احرقت في سوريا 20 ألف أيكر (تعادل 200 كيلومتر مربع)، اما في العراق فقد اجتاحت النيران نحو 134 ألف إيكر من الاراضي (تعادل 1340 كيلومتراً مربعاً) منها 20 ألف إيكر مزروعة بالمحاصيل، وفقاً لبيانات اصدرتها السلطات في البلدين في الاسبوع الماضي.
من المؤكد تقريباً أن "داعش" هي التي تقف وراء كثير من تلك الحرائق، جرياً على ستراتيجية الارض المحروقة التي انتهجتها الجماعة منذ بدء خسارتها للأرض، كما يقول "بيتر شوراتشاين"، وهو زميل في مركز المناخ والأمن. 
يمضي شوراتشاين قائلاً: "إنها طريقتهم لابقاء المناطق الريفية في حالة عدم استقرار وجعلها مهيأة لعمل التنظيم. منطقهم الذي يريدون ايصاله هو: إذا ما منعنا من الاستيلاء على الارض منعناها عن الجميع."
بيد أن قلة فقط لديها الاستعداد لتقبل فكرة أن "داعش" هي المسؤولة وحدها عن جميع تلك الحرائق، كما يقول شوراتشاين ، فمن شبه المؤكد أن هناك آخرين يحاولون أيضاً استغلال الظاهرة. يبدو الأمر وكأن تلك الحرائق المرتبطة بـ"داعش" قد أوجدت غطاء مفيداً استغله الآخرون ايضاً لبلوغ غاياتهم.
في كل من العراق وسوريا تقلبت هذه المناطق من يد الى يد عدة مرات خلال العقود الاخيرة، الأمر الذي خلق نزاعات وخلافات بشأن حقوق الملكية يصعب حل تشابكاتها. فكلا النظامان البعثيان، نظام عائلة الاسد في سوريا ونظام الرئيس السابق صدام حسين في العراق، عمدا الى توطين العرب في اراض تعود للكرد، كما هجر الكرد العرب خلال الحروب العديدة التي شهدها القرن الحالي. بعد ذلك جاءت موجة "داعش" فأخرجت الكرد واستولى العرب على اراضيهم، وحين هزم المتشددون عاد الكرد فأخرجوا العرب من جديد.
عدا ذلك هناك خصومات قائمة بين العرب الذين يوالون "داعش" واولئك الذين لا يوالونها. معنى هذا أن العائدين، من شتى الاطراف، كانوا يزرعون محاصيلهم على اراض عائدة لمن هجروا أو اعتقلوا او فقدوا حياتهم، وعندما جاءت دعوة "داعش" منحت الغطاء لكل من اراد الانتقام من غريم له أو حرمانه من الانتفاع بالارض.
حين حلت الهزيمة بالمتشددين لم تأت معها بحلول سياسية للمشكلة الاكبر، مشكلة من الذي سيحكم تلك المناطق التي طال التنازع عليها. اضطرمت المظالم وتقيحت مثل الدمل ووجهت الاتهامات الى جميع اللاعبين في ساحة الصراع.
في سوريا والعراق اتهم العرب الكرد، واتهم الكرد العرب. بعض الحرائق التي اشتعلت في العراق كانت بعيدة عن مناطق التنازع التقليدية بين الكرد والعرب، لذلك ذهب البعض الى اتهام إيران بأنها تقف وراءها في محاولة لإجبار العراق على شراء الحنطة من إيران.
في سوريا زادت الشكوك تعقيداً تلك السياسة التي تمارس في مناطق الشمال الشرقي من قبل الإدارة الكردية التي فرضت نفسها على الوضع هناك (بدفع من الولايات المتحدة)، وهي سياسة منع بيع الحنطة في المناطق الواقعة تحت سيطرة الحكومة السورية. اعطى هذا الوضع الحكومة ايضاً دافعاً لحرق المحاصيل، كما يقول سلمان بارودو الذي يرأس الهيئة المشرفة على الزراعة في الادارة
 الكردية.
يقول سلمان: "لا يمكننا القول ان النظام وداعش يعملان معاً، ولكن ثمة مصلحة مشتركة بين الاثنين في منع هذه المنطقة من تحقيق النجاح."
وقعت مجموعة منفصلة من الحرائق أتت على المحاصيل في محافظة إدلب الواقعة في الشمال الغربي من سوريا. هذه الحرائق عزتها الامم المتحدة الى القتال الدائر بين المتمردين والقوات الحكومية، التي تشن هجوماً لاستعادة المنطقة، وتظهر مقاطع فيديو بثتها الاطراف المعارضة للحكومة قذائف فوسفورية تطلقها القوات الموالية للحكومة وهي تنفجر داخل حقول الحنطة. على هذا الاساس اتهمت قوات المتمردين الحكومة بالسعي المتعمد الى تدمير المحاصيل في مناطق المعارضة.
بعض الشخصيات في المعارضة السورية اتهمت الكرد السوريين بارتكاب الحرائق بزعم انهم يحاولون معاقبة العرب المؤيدين لـ"داعش"، أو اولئك الذين كانوا في مرحلة سابقة يؤيدون قوات المعارضة السورية المعادية للكرد.
يبقى المتهم الارجح في سوريا هو تنظيم "داعش"، رغم وجود تفسيرات محتملة أخرى، كما يقول "نيكولاس هيراس" المختص بدراسة شؤون المنطقة في "مركز الامن الاميركي الجديد". يمضي هيراس موضحاً: "الاعتبار المنطقي المرجح في حالة حرائق حقول الحنطة خلال هذه المرحلة هو أن داعش تعمد الى هذا الاسلوب كتكتيك تعاقب به اعدائها."
بعض الحرائق قد تكون اندلعت بسبب حرارة الجو المرتفعة التي تجاوزت الحدود المعتادة خلال الفترات السابقة لموسم الحصاد الذي بدأ لتوه، بيد أن المسؤولين الحكوميين والخبراء يقولون أن حرائق بكل هذه الكثرة لا يمكن إرجاعها الى اسباب طبيعية.
الأمر الذي لا ريب فيه هو أن الحرائق قد أفقرت مجدداً اولئك المزارعين الذين هلكت 
مزروعاتهم.
في الشهر الماضي استقبلت نساء عائلة الجغجاغ الصحفيين بالدموع والعبرات. من حولهن كانت الحقول المحترقة سواداً في كل مكان، بعضها لا يزال يتصاعد منها الدخان في اعقاب الحريق الذي التهم نحو 2500 إيكر من المحاصيل بينها 75 إيكر زرعوها بأنفسهم. قالت مها زوجة محمد عباس وهي تنتحب: "لقد فقدنا كل شيء."
في الداخل جلس محمد الجغجاغ على الارض محاطاً بأحفاده وزائريه من أقاربه الأبعدين، قال: "لكأننا في مأتم." ثم اردف مضيفاً: "ترى النار مقبلة عليك من مسافة خمسة كيلومترات ولا تستطيع فعل شيء. حملنا أطفالنا وأخذنا حيواناتنا ولذنا بالفرار." 
كره أن يوجه اللوم الى احد معين بالذات، فالمسألة حساسة بالنسبة للجميع في هذه المنطقة التي تبادلتها الايدي ثلاث مرات على مدى السنوات الاربع الاخيرة .. من يد الحكومة السورية الى يد "داعش"، ثم هي الان في يد قوات سوريا الديمقراطية التي يتولى قيادتها الكرد بدعم أميركي. أناس كثيرون وجدوا أنفسهم في الجانب الخطأ من المعركة وعانوا عواقب ذلك. 
يقول محمد الجغجاغ: "لا نستطيع أن نتهم احداً بفعل ذلك. هل هم العرب؟ لا نستطيع الجزم. هل هم الكرد؟ لا نستطيع الجزم. هل هي الحكومة؟ لا نستطيع الجزم. هل هي تركيا؟ لا نستطيع الجزم. هل هم الاجانب؟ لا نستطيع الجزم. الاعداء كثار وليس في ايدينا دليل."