اليشماغ السومري يحتضن فلسطين

ثقافة شعبية 2024/06/13
...

 إحسان الجيزاني*


اليشماغ ويسمى باللهجة العراقية الشماغ. دفعني حبي للحضارة السومرية العظيمة للبحث عن حقيقة ما قرأته عنها. رحلت مع كاميرتي إلى جنوب العراق كي أصور أبناء سومر في منطقة الأهوار، بكل تفاصيل حياتهم، ومن ضمنها ملابسهم وعاداتهم وتقاليدهم، وبالرغم من أني وجدت العيون والأنوف الكبيرة هي نفسها ما يحملها أهل السومريين، وهذا من صفاتهم. وبعدها قمت بتصوير الآثار السومرية في متحف اللوفر بباريس بكل التفاصيل، وبالأخص تمثال الحاكم السومري كوديا.

إن الشماغ أول من ابتكره السومريون، ونقوشه السود عبارة عن تعويذة، حيث كان الكهنة يضعونها على رؤوسهم فوق القماش الأبيض المغطى بشبكة سوداء مصنوعة من صوف الأغنام، كشبكة صيد السمك لترمز إلى موسم الخير والتكاثر.

وكانت لهذه الشبكة مفاهيم خاصة تتعلق بطرد الأرواح الشريرة، وما يثبت ذلك العديد من منحوتات الحاكم السومري كوديا (2146- 2122ق.م) والمحفوظة في متحف اللوفر وقد صورته مقارنا بينه وبين أبناء سومر، الذين يرتدون اليشماغ أي زيهم السومري لحد هذا الزمن. والحاكم كوديا أول من ارتدى اليشماغ قطعه واحدة. وكان اليشماغ كان له شأن عظيم في ذلك الزمان، حيث جمع ﻻبسه بين السلطة الدينية والدنيوية، وخضع له الجميع وصار لباسا لأمراء وكبار الكهنة في العصر الذهبي السومري (2122- 2014 ق.م). ولو ألقينا نظرة فاحصة على بعض قواميس اللغة المسمارية لوجدنا أصل كلمة يشماغ مكونة من قطعتين في اللغة السومرية وهي «أش ماخ» وتعني غطاء رأس عظيم أو «أش ساخ» أي غطاء رأس الكاهن العظيم. ومن المؤكد أن الأتراك قد أخذوه عن اﻻسم السومري العراقي القديم، ونقلوه إلى لغتهم بعد سيطرتهم على العراق ليطلقوا عليه اسم «ياشمق» التي تعني الشيء المربوط. وعلى أي حال فإن اليشماغ الحالي وان تغيرت ألوانه فهو امتداد لليشماغ السومري، إذ صار قطعة واحدة وما زالت شبكة الصياد وخطوط وأصداف الأسماك تزينه لتطرد الأفكار الشريرة عن

ﻻبسه.

وبعدها صار أبناء الجنوب يرتدون اليشماغ لوقايتهم من حرارة الشمس، ومع مرور السنين أصبح من الفولكلور العراقي يرتدونه وبالأخص أبناء العشائر العراقية اهل الجنوب، حتى انه صار جزءا مهما ومكملا من ملابسهم.

عام 1920 عندما دحر الانكليز الدولة العثمانية واحتلوا العراق، كانت هناك مقاومة في جنوب العراق للاحتلال وبعدها نشبت أكبر ثورة في الشرق الأوسط ضد الانكليز سميت بثورة العشرين، وكان الثوار يرتدون اليشماغ في الليل، لكي يغطوا وجوههم ورؤسهم بشكل كامل ولا يرى من وجوههم سوى عيونهم، وكانوا يقاتلون الانكليز ليلا حتى تحرر العراق. منذ ذلك الزمن أصبح اليشماغ العراقي رمزا للمقاومة، ولم يقف عند حدود العراق وانما انتقل إلى فلسطين.

وعندما اندلعت الثورة الفلسطينية الكبرى عام 1936ضد الانتداب البريطاني، كانت هناك مجاميع من الشبان يقومون بعمليات استشهادية يسمونهم بالفدائيين. وهؤلاء الفدائيون كانوا يقتدون بالمقاتلين العراقيين الذين كانوا يرتدون اليشماغ أثناء كفاحهم وقتالهم الاحتلال، من أجل ألا يتعرف عليهم الجنود البريطانيون. وفي فلسطين أصدرت القوات البريطانية قرارا بالقاء القبض كل من يرتدي اليشماغ، ما دفع قيادات الثورة الفلسطينية في ذلك الوقت إلى إصدار نداء إلى أبناء المدن للإقبال على ارتدائه لكي يصعب على الانكليز اعتقال الثوار. ومنذ ان دخل الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات إلى الأمم المتحدة، وهو يرتدي الكوفية ممثلا عن الدولة الفلسطينية، أصحبت رمزا للمقاومة ضد الاحتلال والظلم.

 الجدير بالذكر ان لبس الكوفية انتقل عالميا، بدءا من جنوب أميركا من خلال المهرجانات والاحتفالات وكان يرتديها كبار المطربين والكثير من الفنانين، حتى انتشرت في عموم أوروبا وتحولت إلى موضة. 

*باحث ومصور ومخرج 

افلام وثائقية في المانيا