المخرج الإيراني جعفر باناهي الذي سبق إن حُكم عليه بالسجن لست سنوات مع الإقامة الجبرية (جرى تخفيفها لاحقاً) لكنه ظل ممنوعاً من السفر ومن العمل السينمائي لمدة 20 عاماً، يصنع افلامه بطريقة سرية او هكذا يريد هو ان تبدو (!)، ويرسلها الى كبرى المهرجانات السينمائية الدولية بطريقة سرية ايضاً، فقد ارسل احد افلامه بواسطة "يو اس بي ستك" مخبأ في قالب معجنات "كيكة" ليشارك في اكثر من 80 مهرجاناً سينمائياً، ولإن افلامه رائعة بحق فهي تفوز دائماً بأفضل الجوائز، وتحظى بانتشار واسع وسريع في انحاء العالم، ويبدو ان السلطات الإيرانية تتواطأ او تغض النظر فهي لا تعاقب المخرج جعفر باناهي وفريقه لخرقهم قرار الحظر المفروض عليه، ربما تريد دعم المخرج والسينما الإيرانية بنحو ما.
وفي عام 2018 يكمل باناهي فيلمه الجديد "ثلاثة وجوه" الذي تم تصويره هو الآخر بطريقة سرية، وارسله الى مهرجان كان السينمائي وحصد السعفة الذهبية عن افضل سيناريو، من المؤكد ان افلام باناهي لامعة ومميزة لكنه يستثمر الحظر المفروض عليه بشكل جيد، وهناك العديد من صانعي الأفلام الإيرانيين منزعجون من اسلوبه في استثمار قصة اضطهاده المزعومة والطريقة التي اكتسب بها شهرة واسعة في الغرب، وقد وصفوا حكاية تهريب احد افلامه داخل كعكة الى الخارج بأنها "مزحة سخيفة"، لكن المهم إن يواصل صاحب" تاكسي" صنع افلام جيدة، ويمارس نوعاً من المعارضة بصوت عال تجيزها سلطات بلاده .
في فيلمه الجديد "ثلاثة وجوه" يقودنا المخرج جعفر باناهي مرة أخرى في رحلة بالسيارة ولكن هذه المرة ليس في طهران كما في فيلمه السابق "تاكسي طهران" بل الى اقصى شمال ايران في محافظة اذربيجان المحاذية لتركيا وشمالي العراق، يقود باناهي السيارة برفقة ممثلة ايرانية مشهورة "بهناز جعفري" ويفصح لنا عن جذوره الأذرية من خلال حديثه باللغة التركية مع الناس هناك لأن التركية هي لغتهم الأم، ويبحث برفقة الممثلة جعفري عن فتاة قروية تدرس في معهد الفنون المسرحية في طهران وترغب ان تكون ممثلة برغم المعارضة الشديدة من الأسرة والمجتمع القروي الذي تنتمي اليه، هذه الفتاة تصور فيديو لعملية انتحارها المزعومة وتتوجه بخطاب احتجاج الى بهناز جعفري لأنها لم ترد على مناشداتها المتكررة عبر الهاتف، الفتاة واسمها "مرضية رضائي" كانت تطلب المساعدة من النجمة جعفري لكن الأخيرة كانت قد غيرت رقم هاتفها ولم تتلق تلك الاتصالات المتكررة، فيديو الانتحار وحده الذي وصل لها، وكانت
هذه الرحلة بالسيارة بحثاً عن مصير تلك الفتاة القروية، فيلم "ثلاثة وجوه" يحكي عن ثلاثة اجيال من خلال ثلاث ممثلات، الفتاة القروية وطالبة معهد الفنون المسرحية "مرضية رضائي"، والممثلة ذائعة الصيت في الوقت الحاضر "بهناز جعفري"، ونجمة مسنة ذات مجد قديم من عهد
الشاه "شهرزاد"، كانت تمثل وترقص وتغني في الأفلام حينذاك، واليوم تعيش في اطراف قرية نائية تكتب الشعر وتقرأه وترسم الطبيعة.
وكما هي عادته فإن المخرج باناهي وهو كاتب السيناريو لفيلمه يستثمر الثيمة الرئيسة "قصة الفتاة المنتحرة" للكشف عن المحيط الاجتماعي وعن روح القرية المتواضعة والتعرف على حياة القرويين، ويرسل من هناك تلميحات احتجاجية معارضة للدولة، الفيلم فيه حمولات رمزية كثيرة مثل الطريق الجبلي الوعر والثور المميز المصاب، ويكشف عن الجوانب المظلمة وكذلك المشرقة في حياة قرية نائية في اقصى
شمال ايران مع تلميحات الى تململ من الدولة، والفيلم مصنوع للمهرجانات والمشاهد الغربي بطريقة ذكية، وقد تميز بناهي بتوظيف اللقطات الطويلة والتصوير في الظلام والقدرة على توظيف سكان القرية كممثلين في فيلمه، وقد اجاد في عرض تقاليد القرويين هناك وتقاليدهم ومعتقداتهم وخرافاتهم وتوظيفها سينمائياً، ربما بوحي من اسلوب المخرج الإيراني المعروف عباس كياروستامي.
وقد أنجز المخرج باناهي اربعة أفلام منذ قرار السلطات الإيرانية بفرض الحظر عليه عام 2010، الأول (هذا ليس فيلماً) عام 2011، والثاني (ستائر مغلقة) عام 2013، والثالث (تاكسي طهران) عام 2015، وأخيراً (ثلاثة وجوه) عام 2018، وكان باناهي قد عمل مساعداً للمخرج الإيراني الراحل عباس كياروستامي واكتسب خبرته السينمائية قبل أن يبدأ مسيرته كمخرج سينمائي بفيلم (البالون الأبيض) عام 1995 الذي نال عنه جائزة الفيلم الأول "الكاميرا الذهبية" من مهرجان كان السينمائي.
فيلم "ثلاثة وجوه" يتصدر الافلام السينمائية منذ فترة ليست قصيرة في صالات السينما في معظم الدول الاوروبية ويحظى باهتمام واسع من قبل النقاد في أوروبا.