د. جبار صبري
ان العامل الذي يدفع الجماعات الى الانغلاق الكلّي على نفسها والانغلاق الكلّي على الفرد فيها. وهو العامل الذي من شأنه تفريغ الرؤية العامة للمحيط او الوطن او الافكار وبما يزيد من ملء تلك الهوية بمياه الخصوصية الآسنة حدّ القرف. وهو العامل الذي يجعلنا في الوطن الواحد نلغي الاعتبار الوطني ونقدس الاعتبار الاعتقادي او الايديولوجي او القومي او
الانتسابي.
نلغي ذلك الانتماء الذي يتموضع في التعايش العام ونؤكد على الولاء الجزئي الذي يؤكد بدوره على التعايش الخاص: التعايش المرتبط والمتماهي بالجماعة. آنذاك لا نملك من الوطن الا اسمه بينما مشاعرنا في كليتها متجهة الى ما تعتقد به حصرا جماعتنا وحسب.
وهكذا يضيع ما يمكن عنونته بالمشترك بين الناس، ولا يطفح الى السطح الا الخلاف الحاد. وبدلا من ان يكون الآخر مصدر اثراء سيكون مصدر عداء.
وبدلا من ان يكون التعامل معه على نحو من الاريحية والسلام سيكون التعامل مشوبا بالكراهية والخوف. يصير التعاون وهو سُنة الطبيعة الاجتماعية في ملتقى من الحرج والترقب، في ساعة يظهر جليا المضمر على وجوه الاطراف. ذلك الذي تفضحه علامات التعبير في الوجه او اللسان دون ضبط له. ذلك الذي لا يمكن اغفاله دون التوقف
عنده.
وبدلا من مراجعة الذات لأجل النقد او التغيير والتطوير ذهبنا خائفين أكثر باتجاه الانكفاء عليها. الأمر الذي أخرج صورتنا الحيوانية البشعة من سفك للدماء وشراهة القتل والاغتصاب وسبي النساء خاصة في تجربة داعش في العراق وهي أمثل تعبير عن اعلان تلك الهوية
الضاغطة.
اليوم نعاني أكثر نحن الشعوب التي تتبنى اطاريحا ميتافيزيقية بالتعبير عن هويتها، نعاني أكثر في تحديد الذات. بل غالبا ما نطفر عن تلك الفكرة التي تؤدي بنا الى تحديد ذاتنا. لأن من أشراط ذلك التحديد تحديث الذات ولأننا نخاف جدا على هويتنا الأولى ولا ننتمي الى الحداثة بشيء نتقوقع أكثر ازاء نموذجنا الأوحد الذي نراه بعين من القدسية
والاعتبار.
لا ننفك نناضل من أجل ابقاء ذلك النموذج المرتبط بقداسة جماعتنا واعتقادنا. نناضل من أجل تكرار اثباتها على نحو قد يكلفنا يوما وجودنا كله مثلما كلفنا الآن تلاشي وضعف اعتبارنا بعين الآخر.