صالونصات

ثقافة شعبية 2024/06/27
...

كاظم غيلان 



تحتل ظاهرة الصالونات الأدبية حيزاً من ذاكرتنا الحضارية، فهي نتاج تحولات حياتية ثقافية تشير لازدهار وتوسع مدارك أي شعب يتوق للتطور.

تعود معرفتي بالصالون الثقافي إلى يوم عملت في ذات عطلة صيفية بصالون حلاقة المرحوم ( خليل رشيد ) عند ستينيات القرن الماضي وكنت وقتذاك في مرحلة الدراسة الابتدائية، وهو إضافة لمهنته كحلاق كان أديباً بارزاً ومؤلفاً للعديد من الكتب الأدبية والدينية، وهو والد الفنان المسرحي الراحل أيضا د. فاضل، إلا أن هذا المحل عند المساء يتحول إلى صالون أدبي كان من أبرز مرتاديه أحمد الخليل -الشاعر- وناصر سعد وحسون الملارجي، كنت أصغي مندهشاً لبعض حواراتهم في الأدب لا سيما الشعر . 

في بغداد المزدهرة آنذاك بمدنيتها وفنونها وثقافتها أسست الفنانة عفيفة اسكندر صالوناً ثقافياً، كان من أبرز رواده د. علي الوردي ود. مصطفى جواد والشاعر حسين مردان وآخرون .

تطورت ظاهرة الصالونات لتمتد وتتسع كمجالس للعديد من الشخصيات الاجتماعية وتدار فعالياتها ضمن مناهج يقوم بإعدادها أدباء وإعلاميون. ولعل هكذا ظواهر لفتت أنظار العامة أكثر من الاتحادات والنقابات التي هيمنت السياسة على وجودها وفاعليتها، فغدت في نظر الناس واجهات دعائية للحكومات، ولذا بقي رصيد الانحياز للأولى(الصالونات والمجالس) تجنباً للسياسة ولوثها وما تخلقه من مشكلات تربك الأذهان وترعب النفوس . مع ذلك حاول العديد من السياسيين ومن باب التمظهر، والاستعراض تأسيس صالونات لهم لاستقطاب العديد من الأدباء والفنانين ابتغاءً لشراء ذمم وضمائر من تسول لهم نفوسهم، أن يتحولوا إلى أبواق صدئة للبعض من الساسة لاسيما في مراحل التحضير لخوض الانتخابات وبهذا يفرغ الصالون من محتواه الثقافي الذي عرفت به هويته وما شهدته من وقائع جلسات منتجة للوعي دون غيره من ترهات السياسة وألاعيبها . قبل أكثر من عشر سنوات استدعى سياسي رفيع المستوى عدداً من شعراء العامية من باب التظاهر باهتماماته الثقافية، ودفعني الفضول، إلى أن أسأل أحدهم عن تفاصيل اللقاء، فأجابني بصريح عبارته : "خربناه من الضحك، دك نكات، وطكنه بتكريم يخبل"، ما دفعني حينها لنشر مادة تحت عنوان (شعراء الضحك).

هذا المسؤول ضمن قطيع حديثي أو عديمي النعمة ومن استدعاهم أيضاً من عديمي المواهب والكرامة، وإلا فما الجدوى من أن يمطروه بسيل من (النكات) ليضحك طويلا، ويضحك عليهم أيضاً بما قذف من فتات .

هؤلاء لا يذكرونني إلا بـ (شعراء الكدية) الظاهرة التي شاعت في الحقبة العباسية والتي أسست لثقافة الاستجداء، والتسول على حساب ما توفرت لهم من طاقات شعرية، ولم تنقطع هذه الظاهرة بقدر ما امتدت لتأخذ صيغاً أخرى تكيفت مع طبيعة أنظمة الحكم وصولاً ليومنا هذا، إلا أنها ازدهرت أيما ازدهار حين وجدت رعاية في حقبة حكم صدام حسين، إذ اتسعت دائرة القرقوزات ضاربة عرض الحائط كل قيم الجمال وجوهر الإبداع وما تشترطه مواقف الثقافة الحقيقية من التزامات إنسانية خالصة . ما فعله هذا السياسي لا يمكن أن يحسب في خانة صالونات الثقافة التي عنيتها، إلا أنه يمكن أن يحسب لعالم (الصالنصات) ولكم هو شاسع ذلك الفرق بينهما.