الكلفة البيئيَّة لإدمان الصين على الاسمنت
إنديا بوركي
ترجمة: مي اسماعيل
أسهم الاستخدام الكثيف لمادة الكونكريت بتعزيز صعود الصين وتطورها؛ والآن حل وقت حساب تبعات هذه المادة الثقيلة.. يبدو أن مدن الصين باتت تغرق، لتكون كما يبدو ضحية واضحة لنجاحها. فقد أصبحت اعداد ضخمة من سكان الصين تعيش الآن في مدن رئيسية، وهذه الأخيرة باتت تغوص تحت مستوى سطح الأرض بمعدل يزيد عن 3 مليمتر سنويا؛ طبقا لدراسة قريبة. كما أن بعض المناطق باتت تغوص بمعدلات تزيد عن 45 مليمتر سنويا؛ كما هو الحال في بعض أجزاء بكين. وبعد نحو قرن من الآن، يتوقع الباحثون ان تصبح ربع أراضي الصين الساحلية تحت مستوى سطح البحر، وذلك بحلول عام 2120.
وعلى الرغم من وجود عدد من الأسباب لهذا الهبوط؛ أشار الباحثون الى المعدل السريع للتطور الحضري على أنه من بين تلك الأسباب. وكانت الكميات الهائلة من المياه الجوفية التي جرى استخراجها لدعم إستهلاك سكان المناطق الحضرية، إضافة الى وزن المباني والبنى التحتية للمدن من بين العوامل، التي أشار اليها الباحثون باعتبار أنها أسهمت في هذا الغوص تحت مستوى التربة. وهي تشابه دراسة سابقة لمدينة نيويورك، كانت قد كشفت أن الوزن الهائل للكونكريت والزجاج والحديد (والذي جرى تقديره بنحو 762 مليون طن) الذي تحمله ناطحات السحاب كان من العوامل المساهِمة لهبوط التربة التي تستقر عليها تلك المباني. وقد سلطت كلتا الدراستين الضوء على بعض التأثيرات غير المتوقعة للتطور الحضري؛ غير أن الدراسة الصينية بالذات أكّدت وجه الخصوص مدى السرعة التي تطورت بها المدن الصينية ومقياس التوسع الحضري فيها. ويمكن الالتفات الى مادة واحدة أكثر من غيرها بإعتبارها الداعم لذلك النمو؛ وهي الكونكريت؛ التي تعد المادة الثانية من حيث كثرة الاستعمال على الأرض بعد الماء!
طفرة الانتاج
خلال السنوات الخمس عشرة الأولى من القرن الحادي والعشرين نفذت الحكومة الصينية ما يقارب نصف إجمالي تحولات التحضر على مستوى العالم.. فقد أُقيمت مشاريع اسكان ومطارات وطرق وتجهيزات مياه ومعالجة نفايات ومحطات إنتاج الطاقة وغيرها من المشاريع بسرعة مذهلة. في أحد الأمثلة على تلك التحولات خلال فترة جائحة كوفيد- 19 قالت السلطات الصينية بأنها قامت بتشييد مستشفى متكامل جديد خلال عشرة أيام فقط. كانت الصين تُضيف نحو ملياري متر مربع من المساحات المشيدة الى مُدنها سنويا؛ وهذه تكفي لخلق منطقة حضرية تعادل مساحة لندن.. يتطلب هذا المعدل المحموم للبناء توفير كميات هائلة من المكونات الأساسية للكونكريت؛ أي- من الرمل والحصى والماء والإسمنت.
ما زالت الصين اليوم تنتج ما يزيد قليلا عن نصف إجمالي إنتاج الأسمنت العالمي السنوي البالغ أكثر من أربعة مليارات طن (نحو 52 بالمئة)، تليها الهند (بحدود ستة بالمئة) ثم اوروبا (بنحو يزيد عن خمسة بالمئة) والولايات المتحدة (اثنين بالمئة تقريبا). ولا يجري تصدير الا القليل من الأسمنت المُنتج في الصين، وخلال العام 2020 استخدمت الصين ما يُقدّر بنحو مليارين ونصف مليار طن من الأسمنت؛ أي ما يعادل 23 ضعف الكمية التي استخدمتها الولايات المتحدة خلال العام نفسه. في الوقت الذي تنخفض فيه استثمارات الصين من جانب التطوير العقاري؛ تنخفض ايضا فورة الكونكريت؛ بتراجع معدلات الاستهلاك والانتاج معا. لكن صناعة البناء والتشييد هناك ما زالت تجعل مثيلاتها لدى أي دولة اخرى تبدو كالقزم؛ بينما يقل مستوى استخدام الهند من مادة الأسمنت بمقدار عشر مرات..
هنا يبرز السؤال عن ما هو الإرث الذي ستخلفه طفرة البناء بالنسبة للصين؟ هناك بالطبع المكاتب والمنازل والمصانع التي ينطلق منها اقتصادها المتنامي؛ ولكن هناك أيضا الكلفة البيئية..
يُعتبر إدمان الصين على استخدام الكونكريت ظاهرة حديثة نسبيا؛ إذ كان الخشب هو مادة البناء الرئيسة، التي تقوم عليها مباني البلاد على امتداد آلاف السنين؛ كما يقول “تشن ييتشوان” الباحث في تاريخ الخرسانة بجامعة كوليدج- لندن. لكن الخشب بات يتراجع ويواجه النفاد مع حلول القرن التاسع عشر؛ خاصة لدى مناطق شرق الصين حيث كان العمران كثيفا. كان الخشب والحديد المستوردان كافيين لفترة من الزمن، وعندما إنقطع الاستيراد بعد تسلُّم الشيوعيين السلطة في بكين بحلول العام 1949؛ كان على المهندسين والمصممين الصينيين ابتكار طرق جديدة للبناء من دون الحاجة لتلكما المادتين.. وهذا ما نتج عنه.. “مسار تفضيل الكونكريت الذي نراه اليوم”؛ كما يقول “ييتشوان”.
شهد إنتاج الأسمنت الصيني زيادة سريعة وثابتة؛ على الأقل خلال السنوات 1990- 2015؛ بحسب وصف “أدموند داوني”، الباحث في شؤون المناخ والطاقة بجامعة برينستون. فقد جرى انتاج نحو 536 مليون طن من الأسمنت خلال العام 1998، وبحلول العام 2023 بلغ الرقم نحو يزيد عن ملياري طن؛ وفقا لبيانات جمعها “روبي أندرو” من مركز أبحاث المناخ الدولي “CICERO” بالنرويج. ولكن الكونكريت (الذي كان يعتبر يوما ما مادة مستدامة لتجنب خسارة الغابات والتي أدت إلى حصول الفيضانات) أصبح اليوم موردا أكثر إثارة للمشكلات.
التأثير السلبي للاسمنت
عندما يجري تسخين خليط من الحجر الجيري (= الكلس. المترجمة) والطين، باستخدام الوقود الأحفوري عادة؛ يتحرر غاز ثاني أكسيد الكاربون “CO2” كمنتج ثانوي. وبالتالي فإن نحو ثمانية بالمئة من الانبعاثات العالمية الناجمة عن أنشطة، بشرية تأتي من صناعة الأسمنت؛ وهذه الانبعاثات (لو كانت ناتجة عن دولة محددة) ستضعها ضمن المرتبة الثالثة على مستوى العالم؛ بعد الصين والولايات المتحدة فقط. كما أن انبعاثات صناعة الأسمنت في الصين تصاعدت أيضا بشكل كبير؛ وارتفعت تلك المعدلات خلال الفترة بين العامين 1980 و1990 بشكل مطرد، ولكنها تزايدت بعد ذلك بسرعة. في الواقع كانت الصين مسؤولة عن نحو 74 بالمئة من النمو العالمي لإنتاج الأسمنت منذ عام 1990، وارتفعت انبعاثاته وفقا لذلك من 138 مليون طن من غاز ثاني أكسيد الكاربون “MtCO2”، خلال العام 1993 إلى 818 مليون طن من ثاني أكسيد الكاربون مع حلول العام 2019. وتُقدّر بعض الدراسات أن الانبعاثات وصلت إلى أعلى معدلاتها خلال العام 2018، بنحو 1073 مليون طن من غاز ثاني اوكسيد الكاربون. ومن المتوقع ان تستمر تلك الانبعاثات بالارتفاع عالميا؛ وبحلول عام 2050 من المتوقع أن يؤدي استمرار التوسع الحضري، خاصة بين الدول النامية، لزيادة الطلب على الأسمنت بنسبة 12 - 33 بالمئة فوق مستويات العام 2020. يستمر الكونكريت بتشكيل التهديد البيئي حتى بعد ثباته في مكانه بصفته جزءاً من المباني والطرق. ولا يقتصر الأمر على أن الزحف العمراني قد يؤدي إلى فقدان الحياة البرية والتنوع البيولوجي؛ بل إن سوء التخطيط وعدم كفاية الصرف الصحي أدت إلى تفاقم الفيضانات في أجزاء كثيرة من العالم. فعندما لا يمكن للتربة امتصاص مياه الأمطار بسرعة، قد يزيد ذلك من خطر حدوث فيضانات مفاجئة. وبوقوع نحو 640 مدينة تحت خطر الفيضانات، فإن الصين مُعرّضة بشكل خاص لتأثير تضخم مخاطر هطول الأمطار الغزيرة. وفي عام 2021، فقد نحو ثلاثمئة شخص حياتهم في مدينة تشنغتشو الداخلية بسبب هطول أمطار غزيرة.
من جهة اخرى، يتطلب إنتاج الكونكريت توفر كميات ضخمة من الرمال؛ وهذا قاد إلى شحة في موارد التربة وتدهور أحوال المحميات الطبيعية لدى عموم الصين؛ إضافة إلى مشكلات تلت ذلك بالنسبة للدول التي لجأت اليها الصين، لاستيراد الرمال؛ ومنها ظهرت مشكلة اختلال التوازن بالنسبة لمستنقعات الخث في سلطنة بروناي القريبة.
خططٌ مُحكمة
على الرغم من أن الصين كانت قد عانت بعضا من أكثر تأثيرات الكونكريت إضرارا؛ لكنها تتخذ أيضا خطواتٍ لمواجهة تلك التهديدات. ويشير داوني إلى أنه خلال الفترة ما بين السنوات 2005 و2015، جرت عمليات لإصلاح إنتاج مادة الأسمنت، فتم اجبار المعامل على الالتزام بمعايير تكون أكثر صرامة بشأن منع التلوث، وجرى حظر الإنتاج في المناطق الشمالية خلال أشهر الشتاء؛ حينما تكون الانبعاثات الناجمة عن إنتاج الطاقة أعلى بشكل عام من غيرها من المناطق الأخرى.
وكانت النتيجة انخفاض مستويات التلوث؛ فعلى الرغم من زيادة إنتاج الأسمنت عشرة أضعاف؛ انخفض انبعاث الجسيمات وغاز أول أكسيد الكاربون. كما جرى منذ العقد الماضي معالجة انبعاثات غاز أوكسيد النيتروجين، الذي تنتج عنه الأمطار الحامضية والضباب الدخاني؛ إذ شددت بكين ومقاطعات أخرى على مستويات الانبعاثات والتقنيات المستخدمة لتحسين عملية إنتاج الأسمنت . لمواجهة التحديات المناخية والبيئية المرتبطة به؛ يجب الاستمرار بمعالجة الإدمان الواضح على استخدام الكونكريت في العالم.. ولكن رغم أنه لا يزال هناك مجال للتحسين؛ فإن هيئات صناعة الأسمنت تأمل أن تتمكن الشركات الأعضاء فيها من تسريع عملية إزالة الكربون من القطاع. وهناك بالفعل بعض الجهود لإعادة تأهيل مناجم المحاجر القديمة في الصين؛ كما يشير “أندرو مينسون” من الجمعية العالمية للإسمنت والخرسانة. أما داوني فيمضي قائلا: “أتصورُ أن تجربة الصين يمكن أن تساعد الدول النامية للتفكير حول كيفية الاستفادة من خصائص الكونكريت المدهشة مع تحجيم سلبياته، ولا أعتقد أنها ستكون الدولة الأخيرة التي تستند بالتوسع الحضري والتصنيعي على الخرسانة بشكل بارز.. الكونكريت مادة أساسية بالنسبة للبناء الحديث والبُنى التحتية؛ لذا فعلى العالم إيجاد وسيلة ليصنعه بطريقة منخفضة
الكاربون”.
بي بي سي البريطانية