أثرٌ حسيني في ذاكرة {المهناوية}

ثقافة شعبية 2024/07/11
...

 نصير جابر


تتشحُ جدران حسينية المهناوية بالسواد، وتوضع شموع نيون جديدة بدلاً عن التي احترقت أو ضعفت، تعلّق  قطع  سوداء بكتابات مذهبة ومطرزة بخيوط صفراء، قطع جديدة ولامعة، أكثر  عبارة  كانت تستوقفني : (حسين منّي وأنا من حسين) (السلام على قطيع الكفين)، عصراً  ومن خلال  مكبرة الصوت التي  يصل صداها  لبيتنا في الحي العسكري  أسمع  صوت سيد حسن الياسري المميز  وهو يؤكد أن المجلس سيكون في الثامنة مساء، فأذهب مبكّراً حتى أجد مكاناً أستطيع أن أرى وأسمع فيه عن قرب (سيد علي المنصوري) لكنني أجد الزحام لا أول له ولا آخر، مرّة قال لي مدرس الرياضة البغدادي مندهشاً ومستغرباً، والذي عرفت من  صلاته أنه من(أنفسنا)  بعد أن حضر عدّة مجالس واستمع له : 

(في قرية صغيرة  نائية  توجد هكذا إمكانية.. يا رب ماهذا الرجل ماهذا العلم الغزير  والمهارة العجيبة في الخطابة).

ليلاً أجلس على (الغليجة) الأخيرة يقظاً منتبهاً، أتتبّع صوته الحنون وهو ينقل بحرفية عالية أيام عاشوراء، كانت مشكلتي العظمى في البكاء، ففي تلك اللحظة التي يبدأ بها سيد علي  في النعي يغطي  الجميع وجوههم بأيديهم، ويضجّ  صوت نحيبهم الحرّاق، ولعل صوت بكاء الحاج جاسم العيساوي كان أشدّ  صوت يمكن أن تسمعه، فالرجل يبكي من أعماق قلبه وكأنه شلال هادر، لكنني  كنت لا أستطيع البكاء، ربما كنت الوحيد الذي أبقى أنظر إليه، مرّة  سألني  رجل يجلس  قربي: كم عمرك فقلت بسرعة (في الثاني متوسط)، 

فقال من الأدب أن تغطي وجهك لحظة النعي، فقلت له (سأبكي عندما 

أكبر).

رائحة الشاي الذي  يشارك الجميع  في تخديره  وتوزيعه،  صوت "الاستكانات" وهي ترتطم بالماعون الخزفي، السكائر، والوجوه التي غاب  أغلبها، المجازون من الجبهة  الذين سيتم تشييع أغلبهم من هنا، من المكان نفسه، كلها لا تزال تدور  في رأسي  مع صوت سيد علي:

لن صوت من هل الجمع الأكبر...وطلعت مرة تمشي وتعثر

وأثاري المرة أم العباس  الأزهر... وصاحت يناعي شهل الخبر

صوتك لعند  الصخر فسّر...  وشهل المصيبة الله وأكبر.

صوت سيد علي الذي يشق  لحاء الروح  شقاً، أشعر به  وكأنه يتصل بآخر صرخة للحسين، في صباح  (الطبگ)، في مجالس كثيرة سأكون بها، لكنني لا أزال أعاني من البكاء، لقد كبرت، وغاب مدرس الرياضة الذي  أحبّ  المهناوية وأهلها. 

وغابت تلك الوجوه ولكنني ما زلت أصغي:

فتركه فأخذ الحر يدنو من الحسين قليلاً، فقال له المهاجر بن أوس: أتريد أن تحمل؟

فسكت وأخذته الرعدة، فارتاب المهاجر من هذا الحال وقال له: لو قيل لي: مَن أشجع أهل الكوفة؟ لما عدوتك، فما هذا الذي أراه منك؟ فقال الحرّ: إني اُخيِّر نفسي بين الجنة والنار، والله لا أختار على الجنّة شيئاً ولو اُحرقت. 

ثم ضرب جواده نحو الحسين منكساً رمحه قالباً ترسه وقد طأطأ برأسه؛ حياءً من آل الرسول بما أتى إليهم وجعجع بهم في هذا المكان على غير ماء ولا كلأ، رافعاً صوته..

تعاقبت المحن على أبي حيدر، إذ فقد  ابنه البكر  ولكنه لا يزال  على نهج أجداده، في الإصلاح بين الناس  فهو يتصدّر الجميع دائماً في كل مكرمة، وله القول الفصل في كل معضلة.  

حفظ الله السيد الجليل، وجزاه الله خيراً، عن كلّ  خير  فعله وعن كلّ ذكر لأبي عبدالله الحسين نشره .