الإمامُ العبّاس.. كاشف الكرب عن وجه أخيه الحسين
رحيم رزاق الجبوري
لا أحد يعرف سرّ مكامن العلاقة الوطيدة والخاصة بين المسلمين العراقيين بجميع مذاهبهم، فضلا عن الديانات الأخرى، والإمام العبّاس بن علي بن أبي طالب (عليهم سلام الله) [الذي ولد في المدينة المنورة بتاريخ 4 شعبان 26هـ واستشهد في كربلاء بتاريخ 10 محرّم 61هـ] وهذا العشق الكبير والمتجذر في عقولهم ونفوسهم ووجدانهم تجاهه.
فالعراقيون يكنّون كل معاني التبجيل والإكبار لسيدي (قمر بني هاشم)؛ فعلاوة على عظمة مآثره ومواقفه الخالدة في معركة الطف، وما سطّره من ملاحم وصولات بطولية وإيثار يعجز وصفه، هناك شيء مكتنز وراسخ في مخيلتهم يصعب تفسيره وفهمه، ويتجلى ويبرز ذلك المعنى - بوضوح- حين ترد على مسامعهم طلاسم اسمه المُبجّل، إضافة إلى اللجوء والركون للقسم بـ (سبع القنطرة) لمن يريد أن ينفي تهمة أو فعلاً يوجّه إليه، وكذلك العكس.
ونحن هنا لا نقدّم سيرة تعريفية لـ(بطل العلقمي) فعشق المؤمنين له لا تحده حدود، والمُعرّف لا يُعرّف بأبي وأمي، ولكننا نحاول تفكيك هذه العلاقة ومعرفة فحوى هذا الترابط الأزلي مع (بدر الهواشم) الإمام البطل، الهُمام، الخالد، والشجاع، الذي عَجِزَ، وسيعجزُ المؤرّخون والكُتّاب والشعراء عن إيجاد كلمات تصف شمائله وسيرته الثرية، والعطرة التي لا ينضب أريجها في سيرة ومجلدات تراثنا الإسلامي.
الإنسان الكامل
ويرى الشيخ عبد الكريم صالح (باحث وكاتب) أن: "الإنسان مجبول على حب الكمال، و(الإنسان الكامل) غاية لأفراد بني آدم.
لاحظ أكثر الأفلام المنتجة شرقاً وغرباً تجد أن المشاهد يتعلق عاطفياً بالبطل، ويتأثر بما يجري عليه، فهذه فطرة مجبول عليها.
وفي العراق يتمثل هذا البطل بإنسان واقعي تاريخي حاز الكثير من صفات الكمال، وأبرزها الشجاعة والوفاء، وما قوّى ارتباطهم العاطفي به؛ هو موقفه من أخيه الحسين (ع) فتعلق الناس بالحسين (ع) أضفى على هذا البطل الشجاع والوفي زيادةً في التجليل والتبجيل، فهو المدافع عن الحق المتمثل بأخيه، موفياً بحق الأخوة، ومثل هذه الشخصيات الكبيرة بمواقفها في التاريخ كثيراً ما يجري أسطرتها، فتضحى أسطورة من أساطير التاريخ، فتنشد عامة الناس إليها، فهو عظيم، يُقسمُ به قسمٌ غير قابل للحنث، ولا يتجرأ كاذب أن يكون العبّاس هو متعلق بيمينه؛ لأنه (عليه السلام) لا يزال يقف مع الحق، ومقارع للباطل، لذا تجده ليس مُعظّماً فقط في المخيال الشعبي، بل مرهوباً منه".
الشخصيّة المُحيّرة
ويستشهد عبد الله الميالي (كاتب وقاص)، في بداية حديثه، بلقاء متلفز تابعه للروائي عبد الرحمن الربيعي، مع عبد الرحمن الشرقاوي (مؤلف مسرحية "الحُسين ثائراً/الحُسين شهيدا")، حينما سأله عن سبب غياب شخصية العبّاس في المسرحية؟ فأجاب الشرقاوي: "إن هذه الشخصية حيّرتني، وقررت أن أخرجها؛ لأفرد لها مسرحية كاملة".
ويضيف الميالي: "أن الكلام عن شخصية العبّاس (ع) يطول جداً، ولا يسع هذه الأسطر القليلة أن تفي حقه، إذ ارتبطت شخصيته، في مخيلة الفرد العراقي بالبطولة الفائقة التي قد تصل إلى حد الأسطورة.
ولمْ يأتِ ذلك من فراغ، وإنما موقف العبّاس المشرّف في كربلاء هو من فرض وجوده على ذهنية ومخيال الفرد العراقي، كما ارتبطت صورته بالكرامات الكثيرة التي عرف حقها من تحققت له أمنية ما".
فطرة وعفوية
ويتابع: "إن الفرد العراقي على بساطته وعفويته له عشق كبير بشخصية العبّاس، وأستذكرُ هذه الحادثة العفوية: كانت هناك زائرة من الجنوب بعدما أنهت زيارتها لمرقد العبّاس، خاطبته: (أُبو فاضل، آنه مستعجلة وكون أرجع لأهلي.. إذا إجت زينب ﮔِلّلهه راح عليهه الوكت وراحت، واتعذّرلي منها) كان خادم الحضرة يسمع كلامها فتأثر جداً من هذه العفوية والبساطة وأعطاها بطاقة دعوة إلى مضيف العبّاس، تناولتها الزائرة والتفتت إلى الضريح قائلة: (شكراً أُبو فاضل، ما قصّرت، وداعة الله)".
قصة كبيرة جداً
ويكمل الميّالي، حديثه مؤكداً : "عمق ارتباط اسم العبّاس في الوجدان الشعبي بالتضحية والإيثار والوفاء لأخيه الإمام الحسين (ع) حد الاستشهاد المروّع، وضرب بذلك أروع أنواع الوفاء، كما ارتبط اسمه بنهر الفرات وبالقِربة".
خاتماً مداخلته الثرية، بقصة قصيرة جداً من إبداعاته الأدبية:
كِبرياء
بنظرةِ احتقار اخترقتْ شغاف القاع، رمى ذلك النهر العاق:
ــ سأُلقنكَ درساً كيف يكون العَطاء؟ .. خُذ.
زرع كفين عند الشاطئ.. نبتتْ ألف حكاية وحكاية.
منذ ذلك اليوم، والناس تروي ملحمة (الكفّ والقِربة).
الأسطورة
وفي السياق ذاته، يقول د. حسين القاصد (شاعر وناقد وأكاديمي): "لم يكن العبّاس بن علي بن أبي طالب من نسل الرسول الأكرم، فهو ليس سبطاً من الأسباط؛ ومع أن علي العالمين والد آل البيت (آل محمد) إلا أن العبّاس وإخوته من أم البنين وكذلك محمد بن الحنفية، جميعهم ليسوا أبناء محمد، هم أبناء علي، على عكس الحسن والحسين فهما ابنا محمد وعلي.
لكن ما سر عظمة العبّاس؟
يقال إن العبّاس اشترك في صفين، ويقال: لم يشترك في أية معركة قبل (الطّف)، لكن ما سر هذه الأسطرة؟".
أغلظ الإيمان
ويضيف: "من الشائع عند العراقيين أن القسم بالعبّاس يعد من أغلظ الإيمان، وحين تتخاصم قبيلتان وتتصالحان، يأتي من يعقد لهم (راية العبّاس) ويتلونَ (فاتحة العبّاس)، فهو أخو زينب، طيب، لماذا هو أخو زينب، وأخوها الشقيق الحسين موجود؟ وهو العبّاس (السطّار) فكيف يسطر وهو بلا يدين؟".
حادثة تاريخيَّة
ويضيف القاصد، مشيراً لمذكرات حردان التكريتي، صفحة (15 - 16)، التي جاء فيها: (ذهبنا مع الرئيس - والحديث للتكريتي- لزيارة محافظة كربلاء، ويجدر بالذكر أن الرئيس البكر رفض زيارة ضريح سيدنا الحسين في تلك الليلة، رغم إصراري عليه، مؤكداً بالحرف الواحد:
- أنا لا أعتقد بالحسين، فهو كان يستحق القتل بسبب تمرده على حكومة يزيد، قال نذهب لزيارة سيدنا العبّاس.
وعندما قلت له:
- ولكن العبّاس كان مع الحسين في كربلاء، وقد قُتِلَ معه، وفي سبيله؟ فقال:
- هذا صحيح، ولكنني أعتقد أن الحسين غرّر بأخيه العبّاس، فقد جلبه معه على أساس أن يصبح ولياً للعهد، ولم يكن إخلاص العبّاس لأخيه إلا من باب النخوة العربية التي يتمتع بها، ثم قال:
- إن الخوارج يمثلون الروح الثورية العربية الصادقة، ولو كنت في عصر علي بن أبي طالب لما وسعني إلا الانخراط في صفوف الخوارج، ولا يزال الحديث لحردان عبد الغفار التكريتي، الذي يعلق: (إن الرئيس البكر كان متأثراً جداً بشخصية معاوية بن أبي سفيان، لذلك هو يحمل حقداً أسود لعلي بن أبي طالب، وليس إهماله لمدينة النجف إلا نتيجة هذا الحقد).
مراهنة
ويمضي القاصد، بالقول: "هذه همجية ورعونة من كانوا يحكموننا، ولا أكثر استخفافاً مما فعله المقبور صدام، حين أطلق اسم العبّاس على أحد صواريخ (سكود) التي ادّعى تصنيعها في العراق، وقد حاول المقبور خداع الشيعة والمراهنة على حبهم للعبّاس، وحين انتهت الحرب العراقية الإيرانية، ثم انسحاب الجيش من الكويت، وانطلاق انتفاضة 1991، قام المقبور بإبادة المنتفضين بالأسلحة الفتاكة، ثم استهدف قبة ضريح الإمام الحسين بصاروخ (العبّاس) وكأنه يعيد للذاكرة ما حدث بين حردان التكريتي وأحمد حسن البكر".
الإمام المستثنى
ويختم، أستاذ النقد الثقافي، في الجامعة المستنصرية، مداخلته القيمة؛ مفككاً بعض المصطلحات العالقة في شخصية الإمام، إذ يقول: "إن العبّاس مستثنى من العصمة التي يعتقد بها الشيعة، لكنه عَصِمَ نفسه بنفسه، أما سرّ كونه أخاً لزينب فهو نسق تعويض معزّز بإرث قريب، فوالده علي العالمين بات في فراش الرسول يوم الهجرة فادياً أخاه وابن عمه، والعبّاس ذاد عن أخيه وعياله، لكن حادثةً جرت، جعلت العبّاس كفيلَ زينب، وهي أن الرسول الأكرم أبقى الإمام علي ليتكفل بأمر الفواطم ويوصلهن إلى يثرب، ومن ذا الذي يقترب منهن أو من علي، وذو الفقار في يده.
فالشبه الكبير بين العبّاس وأبيه عزّز قداسته، فضلاً عن شجاعته رغم حصوله على الأمان من أعداء الحسين.
أما العبّاس (السطّار) فهو نسق تعويض جاءه من إرث عمه جعفر الطيّار.
والسلام عليك يا ابن علي العالمين.. ما بقي الفراتان".
أمثولة عُليا
بينما يصف الكاتب والشاعر فراس الناهي، الإمام العبّاس (ع) بـ"الأسطورة"، ويعدّه "أمثولة عليا، وأسطورة حقيقية مُلهمة"، ويضيف: "هو شيء يملأ العين ويفيض، ويملأ القلب ويفيض، ويملأ العقل ولا يغيض، هو العبّاس الذي يمشي اسمه أمامه مئة عام يؤثر ويبهر ويسحر، فإذا ذُكِرَ العبّاس ذُكِرَت الشجاعة والمروءة والفضيلة والتضحية، والجلد والصبر، والإقدام، والفداء، والإيثار، وأي معنى من معاني الجمال والكمال الإنساني؛ لا يذكر حين يذكر العبّاس؟ فالعبّاس كبير عند العراقيين، أكبره الله، وأكبرته مواقفه؛ فأكبره العراقيون وعشقوه حد أن صار الكثير من أسماء أبنائهم عبّاساً، وصار عندهم رمزاً للوفاء، وصارت رايته دلالة عليه، فهم يشدّونها في مجالسهم العشائرية كميثاق على الوفاء بالعهد، وصارت صورته أيقونة يعلقونها في كل بيت، وهي معلقة قبل ذلك في كل قلب وفي كل ضمير".
قصة عشق
ويكمل الناهي، بالقول: "للعراقيين مع العبّاس قصة عشق، إذ إنهم يذوبون في شخصية هذا العظيم، يغوصون فيها ويستلهمون منها كل معاني الجمال، وما أجمل ذلك العشق، وما أحسن اقتداء المقتدين به حين يقتدون.
هو في ضمير العراقيين، وفي عقولهم الضوء، وفي صدورهم الانشراح، الانشراح والعَبرة معاً، فقصته بكل ما تحمل من نبل ومروءة وعظمة، تحمل أيضاً مأساة قل أن توجد مثلها مأساة شارك فيها، مأساة أخيه أبي عبد الله الحسين الإمام الهمام، شاركه راغباً واهباً كل ما لديه باذلاً آخر ما فيه من قطرة دم بالغاً أقصى ما يبلغه البالغون من تضحية وفداء وحسن إخاء.
وعليه فلقد تشرّب العراقيون العبّاس، تشرّبوه أمثولة وإنموذجاً أعلى، تشرّبوا روحه ومبادئه وشعوره، وصار لا يبرحهم ولا يبرحونه، فهم يزورونه في كل زيارة يزورون فيها أخاه الحسين، ولكنه معهم وهم معه من مبدأ حياتهم إلى منتهاها في كل حين يتنفسونه مع الهواء".