ثورة الإمام الحسين بين الشهادة والفتح

ريبورتاج 2024/07/17
...

أحمد الشطري

لم تكن ثورة الإمام الحسين (عليه السلام) في مجرياتها وأسبابها وأهدافها المعلنة فحسب مدعاة للنظر والتأمل ومصدراً للدرس والعبر برغم ما في ذلك من أبعادٍ إنسانيَّة وأخلاقيَّة ودينيَّة وسياسيَّة وغير ذلك مما لا يُدرك؛ بل أنَّ ما تخللها من رسائل وخطبٍ ووصايا تحمل في مضامينها الظاهرة والخفيَّة ما يحتاج إلى إذنٍ واعية وذهنٍ متفتحٍ قادرٍ على قراءتها وفق منظارٍ يُمَكِّنُ الناظر من خلاله الاقتراب من مدلولاتها وسبر خفاياها.

ولعلَّ من أكثر تلك الرسائل والعبارات التي وردت عنه (ع) بياناً لسر ثورته وتوصيفاً لغاية قيامه، وإنْ كانت عميقة في رمزيتها وخفيَّة في معانيها وبعد مؤولاتها هي تلك الرسالة التي أرسلها لبني هاشم كما ذكرت ذلك العديد من المصادر، ومنها بحار الأنوار للعلامة المجلسي والتي جاء فيها "من لحق بي منكم استشهد، ومن تخلف لم يبلغ مبلغ الفتح" وهنا أمران: الأول: يتعلق بيقينيَّة الشهادة، وفي هذا دلالة على أنَّ الإمام (ع) كان عارفاً بما ستؤول إليه ثورته من حيث الأثر الظاهري وهو القضاء على الثورة عسكرياً وقتل القائمين بها، وفي هذا دلالات متعددة منها:
1 - إنّ الغاية من تلك الثورة لم يكن الوصول إلى كرسي الحكم كما يتوهم البعض.
2 - إنَّ الرسائل التي بعث بها الكوفيون لم تكن هي المحرض والدافع لهذه الثورة.
3 - إنَّ الأثر الآني لم يكن وارداً في أهداف الثورة، وإنما كان هدفها بعيد المدى وهو ما تحقق وما زال يتحقق في كل يوم.
4 - إنَّ دعوته لبني هاشم لنصرته لم تكن الغاية منها تعزيزاً لقوة جيشه بل هي تعزيز لمكانة من يلحق به منهم خلوداً في الدنيا والآخرة كما هو شأن من استشهد معه.
5 - إن الغاية الأهم كانت طلب الشهادة، وهي غاية لا يمكن إدراكها إلا بصحبته بوصفه إمام الأمة ووليها تواصلاً مع قول الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) "ألست أولى منكم بأنفسكم..." والمستند إلى قوله تعالى: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ} [الأحزاب : 6].
أما الثاني: فهو (من تخلف لم يبلغ الفتح أو مبلغ الفتح) وللفتح دلالتان: الأولى الفتح العسكري أو النصر المادي: وهذا منفي بدلالة الجملة الأولى (من لحق بي استشهد)، ومن ثم فلا مناص من البحث عن معنى ودلالة أخرى (للفتح) هي أبعد من الفتح المادي.
وإذا ما نظرنا في الجملتين الشرطيتين نجد أن جواب الشرط متعلق بمآلين (الشهادة والفتح) وبما أن النتيجة الماديَّة الأولى (الشهادة) نافية للنتيجة الماديَّة الثانية (الفتح)؛ فلا مناص من النظر إلى النتيجتين وفق المنظور المعنوي، ومن ثم فإن الشهادة هنا تأتي بمقابل الفتح ظاهراً باعتبار أنهما جواب لفعلي الشرط الأول مثبت ونتيجته مثبته والثاني منفي ونتيجته منفية. لكنَّ النتيجة الثانية في الحقيقة أبعد أثراً من الأولى، وهذا ما يكن أنْ نستشفه من دلالة بعض الآيات الكريمة.
جاءت كلمة الفتح في بعض الآيات وفق دلالتها الماديَّة أو الظاهريَّة كما في قوله تعالى: {لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا} [الحديد : 10] والفتح هنا كما جاء في كتب التفسير وكما هو واضحٌ هو فتح مكة.
وجاء في آية أخرى قوله تعالى: {قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ} [السجدة : 29] جواباً على سؤالهم: {وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [السجدة : 28] واختلف في تفسير الفتح هنا فمن قال أنه فتح مكة وهو أمرٌ يتنافى مع منطوق الآية، ومنهم من قال أنه بدر وفي هذا أيضاً منافات للمنطوق، ومنهم من قال إنه يوم القيامة، وعلى أيَّة حال فإن للفتح في كلمة الإمام الحسين (ع) معاني ودلالاتٍ تختلف عمَّا جاء في تلك الأقوال، ومنها:
1 - إنَّ الفتح هنا قد يكون الدرجة الأسمى في سلم درجات الشهادة، بمعنى أنَّ من لم يلحق حتى لو استشهد في مناسبة أخرى لم يلحق بدرجة أصحاب الإمام. وهو ما نلمسه واقعاً من خلود أنصار الإمام في الدنيا ومكانتهم العظيمة في النفوس بالإضافة لمكانتهم في الآخرة التي هي في علم الله.
2 - إنَّ عدم بلوغ الفتح هو مرحلة ارتدادٍ عمَّا آمنوا به من أنه (أولى من المؤمنين بأنفسهم) وحينئذ (لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ).
3 - إنَّ الفتح كما جاء في منة المنان للسيد الشهيد محمد صادق الصدر "فتح العقل وإمكانيَّة الفهم وتلقي العلوم، سواء كان ذلك من الظاهر أو من الباطن" ومن ثم فالمقصود بالفتح هنا أنكم لم تبلغوا مبلغ فهم الحق أو الإمامة أو الإيمان، ولن تبلغوه. لأنَّ النفي هنا قطعي.
ولعلَّ هناك دلالاتٍ أخرى لمعنى الفتح في رسالة الإمام الحسين (ع) تحتاج إلى سبرٍ أعمق، وكشفٍ أكثر سعة واستشرافاً يضيق عنها المجال، وتبتعد بنا عن غاية المقال.