القضية الحسينيَّة.. مفاهيم علمتنا الكثير

ريبورتاج 2024/07/16
...

 فجر محمد
 تصوير: مصطفى الجيزاني

ما إن ترى الأعلام والرايات السوداء ترفع في الأزقة والطرقات، حتى تهفو القلوب إلى كربلاء وآل بيت رسول الله، واستذكار ذلك المصاب الجلل في ظاهره بينما يحمل عمقاً وبعداً تاريخياً وإسلامياً كبيراً في دواخله، لم يكن العاشر من محرم يوماً عادياً أو مرّ مرور الكرام بل هو بصمة تاريخية ألقت بظلالها على العديد من الأحداث التي تلت هذا اليوم.

إذ صححت الثورة الحسينية الكثير من المفاهيم والقضايا، التي كانت آنذاك مغلوطة، خصوصاً الانحراف الفكري والمفاهيمي السائد في المجتمع، وسعى إلى تقويمه آل البيت الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً.
ومن أهم المبادئ التي غرستها الثورة الحسينية، هي الإيمان بقضية آل البيت ونصرة المظلوم، فضلاً عن تجسيدها لروابط الأخوة والدم والتضحية من أجل الاسلام والمسلمين.
إذ لم يكن موقف إخوة الإمام الحسين (ع) وثباتهم ووقوفهم إلى جوار أخيهم، شيئاً عادياً، بل كان يدل على عمق الرابطة والأخوة التي تجمعهم، هؤلاء الذين خرجوا من بيت ابن عم رسول الله وتربوا على القيم الإنسانية والمعاني السامية، والتضحية من أجل الدين والعقيدة.

مواكب صغيرة
إن كنت تبحث عن الحب ستجدها بداخل القلوب الصغيرة، ما أن يبدأ موسم محرم حتى تجد الصغار ارتدوا اللون الأسود، وبدؤوا بنصب مواكبهم الصغيرة التي تحتوي على الماء والشاي والعصير والكعك، ليوزعوه على المارة بكل حب وتفان.
في ركن صغير جلس الأخوين الصغيرين، ياسر وعلي وأمامهما طاولة صغيرة تحتوي على شاي وبعض المعجنات التي صنعتها لهما والدتهما، ليقوما بتوزيعها على الناس في منطقتهم السكنية، وما أن يلمح الصغير ياسر أحدهم قادماً حتى ينتفض من مكانه ويحمل معه قدحاً صغيراً من الشاي وآخر من الماء، وبعض الحلويات.
ويقول أخوه علي ببراءة الأطفال: "ننتظر أنا وأخي ياسر شهر محرم بكل حب كل عام، لنخدم زوار الحسين ومحبيه ونقدم لهم أبسط الأطعمة التي تعدها لنا أمي".

الخلود الإنساني
كتب كثيراً عن الثورة الحسينية ودلالاتها، فضلاً عن أسبابها ونتائجها والظروف السياسية والاجتماعية التي رافقتها، وبالرغم من ذلك لا يزال المتأمل في هذه القضية الإنسانية، يجد ظروفاً كثيرة تستحق الشرح والايضاح.
يجمع الباحثون على أهمية ثورة عاشوراء، التي تحمل في طياتها الأخلاق والقيم والمبادئ الانسانيّة والعديد من القضايا التي يصعب حصرها، إذ لا تكاد تخلو خطوة أو موقف أو لحظة في ذلك اليوم الا وكانت مليئة وبمثابة درس من الدروس والمواقف الأخلاقيّة التي تغذي روح الانسان، سواء كان ذلك داخل معسكر الإمام الحسين أو من جهة تعامله (ع) مع أعدائه وعلى الصعيد الآخر تبرز الطريقة الخارجة عن إطار الإنسانيّة، التي تعامل بها الأعداء مع الإمام الحسين وأهل بيته وأنصاره (ع).
وفي دراسة أعدها الشيخ عبدالله يوسف، تناول بعض الصور والأحداث التي دارت في معركة كربلاء وهذه القصة يعرفها الجميع، حينما وصل الحر بن يزيد الرياحي ومعه ألف فارس وكان في عز الظهيرة حيث كانوا في غاية العطش، وكادوا يهلكون من الظمأ، حينما رآهم الإمام الحسين رقّ لهم وأمر أصحابه باسقائهم الماء، ولم يكتفِ بذلك بل أمر بسقي الخيل لأنها كانت عطشانة أيضاً وهذا الموقف الإنساني العظيم يعكس الأخلاق، التي تربى عليها الامام الحسين وآل بيته الأطهار.
وفي المقابل تعامل الجيش الأموي مع الإمام الحسين (ع) بمنتهى القسوة والجفاء، إذ منع عنه الماء و تعاملوا معه وأصحابه وأهله بوحشية وبلا إنسانية، في حين أن الإمام تعامل معهم بكل إنسانية ورحمة، عندما كانوا بأمس الحاجة إليه ولكنهم منعوا الماء عنه حتى يموت ومن معه عطشاً، إذن فإن موقف الإمام الحسين  وغيره كثير يدل على التعامل الإنساني عند الإمام (ع).

سيرة عطرة
ويكمل الشيخ عبدالله يوسف دراسته، مشيراً إلى أن قراءة سيرة الإمام الحسين الأخلاقية توضح الأمور والقيم التي اتفق عليها جميع البشر، فأي إنسان في العالم يرى بأن الصدق أمرٌ حسن، وأن الكذب أمر قبيح وأن الرحمة نعمة، إذن هذه القيم الأخلاقية متعارف عليها وتؤمن بها جميع الأديان.
وفي بحث أعده السيد أبو القاسم الديباجي، أكد  ضرورة الإيمان بالتآخي الانساني الذي أكدت عليه الثورة الحسينية وأن البشر خلقوا جميعًا من نفس واحدة وبالتالي فأصلهم واحد.
لذا من أبرز مظاهر ثورة الامام الحسين (ع) تجسيدها لروح الوحدة الاسلامية نظراً إلى قدسية هذه الثورة والأهداف السامية التي تسعى إلى تحقيقها، فهذه الثورة الاصلاحية لم تكن ملكاً لفئة دون أخرى بل هي للانسانية جمعاء بلا تمييز بين عرق أو لون.
وانطلاقاً من هذه الحقائق، فإن نهضـة الامام الحسـين (ع) كانت نبراساً للعديد من نهضات وثورات التحرر في العالم.

دروس عظيمة
 نستلهم من الإمام الحسين وآل بيته دروساً ومواعظ كثيرة، بهذه الكلمات استهلت حديثها مدرسة التربية الإسلامية أزهار شريف وتابعت القول: إن "الإمام (ع) لم يخرج أشراً ولا بطراً، ولكنه سعى إلى الاصلاح وارساء القواعد الاسلامية الصحيحة، وهذا ما يجب أن تتعلمه الأجيال، فالثورة الحسينية مبدأ وعقيدة، وليست مجرد مظاهر وصور بعيدة عن واقعها الحقيقي".
وترى شريف أن ثورة الامام الحسين هدفها الأسمى كان تحقيق العدالة، وتغيير واقع المسلمين ورفع الأذى والظلم عنهم.
وتجمع المصادر التاريخية على أن الإمام الحســين كان يرفض العنف وينبذه تماماً، ولم تهدف رحلته نحو العراق إلا ليحل العدل والسلام في ربوعه، لأن الفساد كان منتشراً في المجتمع، ويجمع المؤرخون على هذا الأمر ومنهم المسعودي في كتابه المشهور (مروج الذهب) عن الفساد الذي كان سائدًا أيام الحكم الأموي، وكذلك الابتعاد عن الروح الاسلامية والشرائع الانسانية،  التي أقرها الدين الحنيف ودعا إلى تطبيقها، لقد كان الظلم هو السائد آنذاك، ولهذا سعى (ع) إلى إقامة العدل الذي تقوم عليه فلسفة التشريع، وتنتظم به الحياة.

جذور عميقة
يشير الشيخ مهدي شمس الدين في كتابه (ثورة الحسين) إلى أن "أكثر ما استأثر باهتمام الناس من هذه الثورة هو جانب القصة فيها بما اشتمل عليه من مظاهر البطولة النادرة، والسمو الإنساني لدى الثائرين وقائدهم العظيم، وتضحيتهم بكل عزيز من النفس والولد والمال ‏والأمن في سبيل المبدأ والصالح العام، بالرغم من الضعف بل واليأس من النصر العسكري، وما اشتمل عليه من ‏مظاهر الجبن والخسّة والانحطاط الإنساني لدى السلطة الحاكمة وممثليها وأدواتها في تنفيذ جريمتها الوحشية ‏بملاحقة الثائرين، واستئصالهم بصورة لم يشهد لها التاريخ مثيلاً. ‎
‎ ويضيف قائلاً: "وقد بلغ من قوة التأثير إلى الجانب القصصي المأساوي من هذه الثورة، بما له من دلالات ‏مثيرة، أنه فرض نفسه على معظم من كتب عنها إن لم يكن كلهم فلقد قصرت دراساتهم على هذا الجانب دون ‏غيره.
ولكن الجانب القصصي على ماله من مزايا تربوية وتوجيهية  ليس هو كل ثورة الحسين (ع) ‏فإن أحداث هذه الثورة، ونظيراتها في العالم لم تنبع من الفراغ، وإنما هي جزء من عملية تاريخية واسعة ‏النطاق.‏
ولكل ثورة جذور في نظام ومؤسسات المجتمع الذي اندلعت فيه، وظروف سياسية واجتماعية ‏معينة كانت تؤثر في بنية المجتمع بأكمله، وماكان سائداً في ذلك الوقت كان الظلم وغياب العدالة الاجتماعية ولذلك سعى الإمام الحسين إلى إبدال تلك الظروف بالعدل والمساواة الاجتماعية.