التأصيل الثقافي لشعائر عاشوراء

ريبورتاج 2024/07/16
...

 عادل الصويري

ليس لنا أنْ نقرأ الاحتشاد الجماهيري العاشورائي بطريقة لا عمقَ فيها، لمجرد أننا نختلف مع معطياته ومسبباته؛ لأسبابٍ تتعلق بالإيديولوجيا، أو بالضخ المذهبي المحرج من الحدث وتأثيره الذي يمثل أكبر صعقات الوعي الإنساني على الإطلاق، ثم نطالب بعدم الالتفات لهذا الحدث، كونه حدثاً تاريخياً من الماضي. وعلى العكس من رؤية هجر التاريخ، يمكن أن تكون الأحداث التاريخيَّة ثيمة مستقبليَّة، يمكن أن يحتفى بها لو تمت قراءتها ثقافياً بسياقات غير خاضعة للأسباب السابقة المختلفة، أي تقرأ بنتائجها وأسباب بقائها الإنساني.
وقياساً لهذه المعطيات؛ ولعمق المعنى الإنساني الذي يغلف ثورة أبي عبد الله الحسين عليه السلام، يمكن تأسيس هويَّة إنسانيَّة جمعيَّة تستمدُّ عناصر بقائها من كربلاء وما أنتجته من مفاهيم صارت مادة للأدبيات السياسيَّة والاجتماعيَّة والفكريَّة، ما يعزز الذاكرة الثقافيَّة المستقبليَّة، ويبشر بمستقبلٍ إنساني أكثر بياضاً وجمالاً.
وطالما أننا استطعنا تشكيل هويَّة جمعيَّة ملونة بالموقف الحسيني المضيء، والمتعدد الأبعاد، لا بُدَّ من الاتجاه الجاد، والسعي الحثيث لتأصيل الشعائر المحتفية بهذا الموقف، وإثبات مبررات رسوخها في الوجدان الإنساني كل هذه الفترة الممتدة من سنة 61 للهجرة وحتى قيام
الساعة.
هذا الإثبات يتطلب أولاً وقبل كل شيء الإيمان واليقين بقداسة هذه القضيَّة الكبيرة وعدم الخضوع بغرابة مملة للنقودات التي لا تستند على وقائع ومعطياتٍ منطقيَّة وعقليَّة
في نقد آليات التأصيل ممثلة بالطقوس المتعددة شعبياً ونخبوياً، والتي تُمارس في إحياء ذكرى عاشوراء وملحمتها الخالدة، فلسنا في شعائرنا وطقوسنا هذه جئنا بما لم تجئه الأوائل، فكثير من الشعوب على تعدد أديانها، لها طقوسها وموروثاتها التي تحترمها وتحافظ عليها، بل وتعدُّ الطقوس جزءاً من ثقافتها ومن مبررات وجودها، فما الذي يمنعنا من أنْ نحذو حذو هذه الشعوب؟ مع أنَّ الفرق بيننا وبينهم هو أنَّهم يحتفلون ويقيمون الطقوس فولكلورياً من خلال أساطير وحكايات، أما نحن فقضيتنا حيَّة متجددة في وجدان الإنسانيَّة، ولا يمكن أنْ يتمَّ اختزالها بتنظيرات ترفيَّة.
هي قضيَّة بطلها إنسانٌ حقيقيٌّ وليس حكاية أو أسطورة، وقدم للإنسان في الله كل شيء فأعطاه الله تعالى كل شيء.
علينا أنْ نتخلصَ من عقدة التابعيَّة وتقليد الغرب، وسكب متبنياته الماديَّة على خصوصياتنا الدينيَّة والاجتماعيَّة، الأمر الذي يتطلب حضور النقد الثقافي بقوة؛ وذلك ليكشف ما يمكن اكتشافه من أنساقٍ وممارساتٍ تحاولُ إقصاء الخصوصيَّة، عبر اختلاق المبررات التي لا تمتَّ للواقع بأيَّة صلة، وهي في الحقيقة لن تضرَّ قضيَّة استمدت تأييدها وخلودها من إرادة السماء.
لكنْ لا بُدَّ من ديمومة العمل على تأصيلٍ ثقافيٍ وفكريٍ لشعائر عاشوراء؛ حتى نضمن عدم التشويش على الأجيال القادمة، وإنْ كان تشويشاً مؤقتاً لن يصمد كما لم تصمد سابقاً كل ممارسات الأنظمة الجائرة وطغيان العصور المختلفة في إيقاف مسيرة الاحتفاء بالنهضة الحسينيَّة، وما تلك الممارسات إلا مصداقٌ للمقولة الشهيرة: «مهما بصقت بوجه الشمس فإنها لن تنطفئ».
على هؤلاء المنفصلين عن واقعهم أنْ يسألوا أنفسهم عن الضرر الذي يحدثه فيهم ذلك التكافل الاجتماعي الهائل أثناء مسيرة الإنسان صوب الحسين الملهم، أليست مشاهد هذه الملحمة البشريَّة المسالمة، هي ذاتها التي تراود مخيلتهم ويحتفون بها في نصوصهم وكتاباتهم وتنظيراتهم؟
لماذا عندما تكون واقعاً ملموساً عبر طقوسٍ راسخة يتبرمون ويطلقون ما لذ وطاب من الآراء الغريبة العجيبة؟
إنَّ أهم ركيزة من ركائز ترسيخ الاحتفاء بهذه النهضة الكبيرة هي عمليَّة الحفاظ على استمراريَّة طقوسها متوهجة بين الأجيال، وإفهام الآخر أنَّها تحتفي بحريَّة الفكر، وحريَّة إبداء الرأي، وحريَّة الاعتراض المقدس على الممارسات المنحرفة، والقيادات الفاسدة المتجبرة، كل هذه الحريات تجلت في القضيَّة التي يعاد إحياؤها بواسطة هذه الطقوس الاستذكاريَّة ثقافياً وأدبياً ومسرحياً، وتجلت كذلك في المؤتمرات البحثيَّة والعلميَّة التي تقام؛ لتنهل من عمقها وثراء مضامينها، مركزة على الكلمات التي صدرت من بطلها العظيم يوم الملحمة، والتي شددت على أنْ يكون الإنسان حراً وإنْ واجه خطر الموت: «آليت لا أُقْتَلُ إلاّ حُرّا/ وإنْ رأيتُ الموتَ شيئاً نُكرا»، وكذلك في قوله لأعدائه المتوحشين: «إنْ لم يكن لكم دينٌ وكنتم لا تخافون المعاد فكونوا أحراراً في دنياكم»، فالقضيَّة أولاً وأخيراً ترتبط بالحريَّة وهي أثمن المكتسبات الممنوحة للإنسان وقيمته.
كيف لمن يؤمن بحريَّة الفرد الإنساني، وبكرامة البشريَّة، أنْ يشيحَ بوجهه عن مثل هذه القيم العليا بكل ما لها من سموٍ ونُبلٍ، ولا يقيم لها فعاليات الاستذكار بجميع توجهاتها، ولا يقوم بإحيائها ويجعلها متقدة ما استمرت مسيرة العطاء البشري؟
إنَّ شرط الإخلاص في تقديم الوجه الناصع لقضيتنا الحسينيَّة الخالدة يُمَكِّنُنا من تحقيق حلم الهويَّة الجمعيَّة، على وفق النسق الشعائري الكربلائي، وجمهوره المتواصل، فسلام على الحسين ثائراً وشهيداً وجامعاً الإنسانيَّة في هويَّة متحررة باقية، متجاوزة للزمن.