العقيلة زينب.. لسان حال الثورة الحسينيَّة

فلكلور 2024/07/21
...

 لطيف جيجان

يعتقد البعض ممن يقولون إنهم أعطوها حقها أو أوفوها قدر نضالها تلك التي أشرفت على الموت مراتٍ ومرات، غصة إثر غصة ودماً أثر دمٍ تطاير من أجياد أحبائها وفلذات كبدها في أرضٍ أعدت بمكرٍ كبيرٍ ودهاءٍ لوأد كلمة الحق الذي كاد أن ينفجر لو لا كرامة قل نظيرها وشجاعةٍ لم يعهدها العرب من قبل من أمرأة آلت على نفسها إلا أن تهدد السلاطين بفضحهم.

فهي التي تحدت يزيد في مجلسه حين قالت في خطبتها (ظَنَنْتَ يَا يَزِيدُ حِينَ أَخَذْتَ عَلَيْنَا أَقْطَارَ الْأَرْضِ، وَضَيَّقْتَ عَلَيْنَا آفَاقَ السَّمَاءِ، فَأَصْبَحْنَا لَكَ فِي إِسَارٍ، نُسَاقُ إِلَيْكَ سَوْقاً فِي قِطَارٍ، وَأَنْتَ عَلَيْنَا ذُو اقْتِدَارٍ، أَنَّ بِنَا مِنَ اللَّهِ هَوَاناً وَعَلَيْكَ مِنْهُ كَرَامَةً وَامْتِنَاناً؟؟ وَأَنَّ ذَلِكَ لِعِظَمِ خَطَرِكَ وَجَلَالَةِ قَدْرِكَ؟؟ فَشَمَخْتَ بِأَنْفِكَ وَنَظَرْتَ فِي عِطْفٍ، تَضْرِبُ أَصْدَرَيْكَ فَرِحاً وَتَنْفُضُ مِدْرَوَيْكَ مَرِحاً حِينَ رَأَيْتَ الدُّنْيَا لَكَ مُسْتَوْسِقَةً وَالْأُمُورَ لَدَيْكَ مُتَّسِقَةً وَحِينَ صَفِيَ لَكَ مُلْكُنَا وَخَلَصَ لَكَ سُلْطَانُنَا).

لقد نجحت تلك السيدة العظيمة أنْ تكون المراسلة الفائقة الدقة وصاحبة الخطة في نقل وتبيان الحقائق التي أُريد لها أنْ تُغيب من التاريخ والتستر على أبشع وأفجع جريمة قتل في التاريخ، نعم فهي لم تكن بطلةُ رقعة جغرافيَّة مثل مدينة محددة أو دولة، فمراثيها وهي ترافق رؤوس اخوتها وأبنائهم مع حر الصيف المختلط بمنظر السهام وآثار طعنات السيوف في طريقٍ مُلئ بالشماتة وجهل القوم وإنكار الفضل في عيون المارة قد سبب هذا الطريق حُرقة وألماً ما بعدهُ ألم، لكنَّ أجنحة لهدفٍ كان يصاحبها أنْ تكون بابتلاء حمل القضيَّة الحسينيَّة والذهاب بها بعيداً الى آخر ما تستطيع، ولقد كان لها ما تُريد ساعدها في هذا فصاحة استلهمتها فطويت لها الأرض فنصبت المآتم في كل القلوب التي صادفتها، وزرعت حُبُ الحسين في العقول قبل الأفئدة ولتعيد للحسين دربه وتمكنه من إكمال رسالته الخالدة رغم كل الجهود التي بُذلت لطمسها، لم تكن بطلة مثل أبيها واخوتها الأبطال فحسب بل كانت صوت الثوري والتحدي للظالمين وحكام الجور (أَمِنَ الْعَدْلِ يَا ابْنَ الطُّلَقَاءِ تَخْدِيرُكَ حَرَائِرَكَ وَسَوْقُكَ بَنَاتِ رَسُولِ اللَّهِ سَبَايَا؟؟ قَدْ هَتَكْتَ سُتُورَهُنَّ وَأَبْدَيْتَ وُجُوهَهُنَّ يَحْدُو بِهِنَّ الْأَعْدَاءُ مِنْ بَلَدٍ إِلَى بَلَدٍ وَيَسْتَشْرِفُهُنَّ أَهْلُ الْمَنَاقِلِ وَيَبْرُزْنَ لِأَهْلِ الْمَنَاهِلِ وَيَتَصَفَّحُ وُجُوهَهُنَّ الْقَرِيبُ وَالْبَعِيدُ وَالْغَائِبُ وَالشَّهِيدُ وَالشَّرِيفُ وَالْوَضِيعُ وَالدَّنِيُّ وَالرَّفِيعُ، لَيْسَ مَعَهُنَّ مِنْ رِجَالِهِنَّ وَلِيٌّ وَلَا مِنْ حُمَاتِهِنَّ حَمِيمٌ، عُتُوّاً مِنْكَ عَلَى اللَّهِ وَجُحُوداً لِرَسُولِ اللَّهِ وَدَفْعاً لِمَا جَاءَ بِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَلَا غَرْوَ مِنْكَ وَلَا عَجَبَ مِنْ فِعْلِكَ).

فالمقولة التي تقول (كل أرضٍ كربلاء) قد كانت من فيض ما جادت به بنت الأشرفين، إذ حولت كل مدينة وطأتها أقدامها الشريفة امتداداً لمعركة الخلود والكلمة والشرف، أمام كل الشر وكل الرذيلة وكل الفسق وكل الخيانة وكل الأعراف والقيم، لقد استطاعت بنت خير البريَّة وهي تواجه كل ما استطاع الشيطان من إغواء، في زمنٍ يحكمه من تغزل بعمته أخت أبيه، من هتك الكعبة وسبى المسلمات في كل بطون أشرافها، في زمنٍ لم يكن يؤمن بما أنزل الله، فكانت المتبارية وهي التي ثُكلت بأشرف خلق الله بعد نبيه ووصيه ولم تترك منابر أهليها أهل الكرم والضيافة ورغم الموقف غير المتوقع وهي بنت أنبل بيوتات الحق والنبل والعِز، كل هذا لم تترك لحظة واجبها في تغيير شعوب وقبائل وتحريضها لهم لنصرة الحق في كل مدينة مرت بها وهي مُثقلة بحمل رأس عُرف عنه انه قال لا، ستراتيجياً هي بطلة الأرض كلها، بطلة الكلمة والرد الصاعق والحق المزلزل، هي بطلة مصر مع كربلاء حيث نشرت الأمن من الجوع وأعطتهم بطاقة ضمانٍ للعيش ما بقي الدهر، بدعائها حين دعت لهم، هي بطلةُ الشام حين علمتهم ما معنى الإعلام وقول الحق، هي بطلة الجزيرة عندما نشرت حقيقة الخيانة حين تغافل الأقربون.

إنها سليلة الأنبياء حين كتبت ما عجزَ عنه المؤرخون، هي امتداد اللغة حين تفرق أصحابها للمغانم والدنانير، فلا تقولوا بطلة كربلاء، فهي بطلة رحلة طويلة ملأت الأرض بالحق لتنشر أعظم قصة للتضحية عرفتها الإنسانيَّة ولتكون باستحقاق بطلة الأرض والسماء أجمعين.