أصحاب الحسين {ع} في واقعة الطف أنموذجٌ للصداقات النبيلة والوفاء المطلق

ريبورتاج 2024/07/21
...

   عباس رضا الموسوي 

تبقى واقعة الطف الحسيني المهيب مدرسة للقيم والأخلاق والمبادئ التي غرستها تلك التضحيات الجسام، والمواقف النبيلة التي حولت أطهر مخلوقات الله تعالى إلى قرابين مضرجة بالدماء على تراب كربلاء اللاهب، تضربها الرياح الحارة وتكسوها الرمال حيث فرض على أصحابها القتل عطشاً في غربة لا ناصر فيها ولا معين، إلا نفر من الأصدقاء الخلص الذين جسدوا أسمى معاني الوفاء في لحظة ندر فيها الأوفياء، وسجلوا رغم قلتهم الكثير من المواقف الخالدة التي بقت ترددها الأجيال شعرا ونثراً، وباتت مضرباً للأمثال بين الناس وراح يذكرها الفلاسفة والكتاب العرب والأجانب في طروحاتهم وكتبهم.

الغريب في سر الحكاية، أن هؤلاء الأصحاب يتفاوتون في العمر، فهذا لم يتجاوز العشرين سنة، وآخر بلغ الثمانين، ويتفاتون في السكن، فهذا من الكوفة، وذاك من المدينة، وهذا شيخ قبيلة، وهذا من الرق وغيرها من فوارق تلاشت عند ساعة الصفر عندما جمعتهم غاية واحدة، هي إرضاء الله تعالى بنصرة ابن بنت نبيه، أو الاستشهاد بين يديه ليتحولوا إلى مصدر للثورات بوجه الطغاة في كل العصور، وقد نجحوا في ذلك.


حبيب بن مظاهر الأسدي

وهو الشيخ العابد والمؤمن الذي كان حامل لواء الأنصار في معركة الطف، ويعد من الأصحاب المقربين من الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام، وكان من شرطة الخميس المرتبطة بالإمام علي عندما كان خليفة، وقد تعلم منه الكثير من الآداب والعلوم والرجولة، ويلقب بأبي القاسم، وقد عرف عنه في واقعة الطف تسجيله العديد من المواقف القوية، منها جعجعته مع الأنصار بالخيول ليلة العاشر من محرم الحرام لتطمئن قلوب الفاطميات اللواتي تعالت أصواتهن بالبكاء عندما شاهدن الحسين(ع) يوصي وصاياه الأخيرة، والرجال يودع بعضهم بعضاً، كما أن الشيخ الشهيد القائد حبيب بن مظاهر الأسدي رضي الله عنه كان قد واجه جيش بن سعد اللعين بالحكمة والموعظة الحسنة صبيحة المعركة، قبل أن ينخرط الجيشان في القتال، كما أنه سبق واقعة الطف بملازمته لمسلم بن عقيل عليه السلام في الكوفة، وشكل مع مسلم بن عوسجة رضي الله عنه ثنائياً أحاط بمسلم بن عقيل حتى استشهاده، وقيل إنه قتل على كبر سنه العشرات من الأعداء.

وتتحدث الروايات أنه عندما أراد الخروج خفية إلى موكب الحسين عليه السلام أعطى جواده لغلامه، وطلب منه أن ينتظره عند أطراف البساتين، وما أن ودع عياله وجاءه حتى سمع الغلام يخاطب الجواد قائلا: (إن لم يأت سيدي حبيب، سوف امتطيك وأذهب لأقاتل مع سيدي الإمام الحسين) فاصطحبه معه إكراماً له.


زهير بن القين

وهو فارس مغوار خاض العديد من الحروب، وتعلم منه الكثير من الفرسان فنون القتال ومنهم (المختار بن يوسف الثقفي)، وأصبح بعد ذلك من التجار الذين يجوبون البلدان في تجارتهم، وقد وعد نفسه ألا يخوض حرباً بين المسلمين، باستثناء الحروب التي يخوضها المسلمون ضد الأعداء، وصادف خروجه مع زوجته المؤمنة الرشيدة (دلهم) من مكة بعد أداء فريضة الحج، بالتزامن مع خروج قافلة الحسين عليه السلام إلى الكوفة، فكان قدره الرباني أن يستشهد مع الركب المقدس في العاشر من محرم، ومن تضحياته الجسيمة أنه طلق زوجته التي كان يهيم بها حباً كي لا تذهب معه وتقع أسيرة فتذل، ولازم الحسين عليه السلام كظله، وقاد الميمنة باقتدار حتى استشهد بعد أن قتل من جيش ابن سعد عشرين مقاتلاً.


مسلم بن عوسجة

لقد وقف مسلم بن عوسجة رضي الله تعالى عنه بداية مع مسلم بن عقيل عليه السلام عندما جاء سفيراً للحسين عليه السلام إلى أهل الكوفة، وكان من المبلغين والناصحين للناس الذين توافدوا على البيعة قبل أن ينقلبوا خوفاً من ابن زياد لعنة الله عليه، ويعد ابن عوسجة من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأعيان الكوفة، وأبرز القراء لكتاب الله تعالى، ويتمتع بسمعة حسنة بين المسلمين، ومن مآثره في ليلة العاشر من محرم أنه رد على الحسين عليه السلام عندما طلب من أصحابه أن يتخذوا من الليل جملاً، لأن القوم يطلبونه بنفسه، فقال ابن عوسجة (والله لو علمت أني أقتل ثم أحيا، ويفعل ذلك بي سبعين مرة ما فارقتك، فكيف لا أفعل ذلك وما هي إلا قتلة واحدة؟ ثم إنها الكرامة التي لا انقضاء لها أبداً)، فكان له ما أراد حيث كان أول من استشهد من أصحاب الحسين عليه السلام في واقعة الطف.


الحر بن يزيد الرياحي

من الغرابة أن هذا القائد الذي منع جيش الحسين عليه السلام من المسير في أي اتجاه غير طريق كربلاء تنفيذاً لأوامر اللعين عبيد الله بن زياد والي الكوفة، هو نفسه الذي أخذته الرعشة عندما شاهد الحسين عليه السلام وحيداً فريداً بين جثث آل بيته وأنصاره ينادي (ألا من معين يعيننا؟)، فما كان منه إلا أن يخبر صاحبه الذي سأله عن أسباب ارتجاف جسده قائلا: (إني أخير نفسي بين الجنة والنار)، ورغم النصر الدنيوي الذي كان يتمتع به هذا الفارس المغوار حيث لا يفصله عن هدايا والي الكوفة وخليفة الشام سوى قتل الحسين عليه السلام، إلا أنه انتهز الفرصة الأخيرة، وتوجه نحو إمامه باكياً من شدة الندم على ما فعله من محاصرة له ولأسرته وجيشه خلال الأيام الماضية، وعندما أخذ كلمة الإذن بارز الذين كان قبل قليل قائداً من قادتهم، وقتل العشرات حتى استشهد بين يدي سبط الرسول صلى الله عليه وسلم.


عابس بن أبي شبيب

وهو عابس الشاكري رضي الله تعالى عنه قد بايع مسلم بن عقيل عليه السلام في الكوفة، ودعا الناس إلى مبايعته لقناعته بأحقية الحسين بن علي بن أبي طالب عليهم السلام بالخلافة، وعندما سمع بقدوم الركب الحسيني المقدس التحق به، ومعه خادمه شوذب، وهو من القراء لكتاب الله ومن مآثر عابس رضوان الله عليه أنه عندما خرج إلى الميدان، لم يجد من ينازله لقوّته وبأسه لذلك حاول إغراء الأعداء عندما راح يخلع درعه أمامهم فخاطبه صديقه الشخصي (تميم بن ربيعة) قائلا: (أجننت يا عابس؟) في إشارة إلى خلعه درعه لحظة البراز، فأجابه بمقولته الشهيرة التي بقت الأجيال ترددها حتى يومنا هذا (ويحك أن حب الحسين أجنني)، فأي وفاء هذا الذي يجعل المرء يخلع بزّته ودرعه في وسط الميدان، ويصرخ أن حبه للحسين أصابه بالجنون؟.


وهب الحسيني

إن الذي يشرع باستذكار الفارس الشهيد (وهب الحسيني) رضي الله عنه، لا بد له من استذكار دور أمه المحفزة وزوجته العروس المخلصة، إذ كان لهن دور مهم في رفع الروح المعنوية لوهب وباقي الأبطال الغيارى، فهذا الرجل الذي كان على الدين المسيحي، لم يجد بداً من نصرة الحسين عليه السلام والدفاع عن حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكانت له صولات وجولات تعبر عن الوفاء الشديد والغريب أن لقاء (وهب الحسيني وأمه وزوجته) بالإمام صدفة، حيث جمعتهم الصحراء، وعندما عرض عليهم الإمام الانضمام إلى ركبه وافقوا وأعلنوا إسلامهم ليحظوا بحسن العاقبة، فهذا الرجل الذي لم يتم الشهر على زواجه من الفتاة التي اختارها لنفسه، قدم نفسه قرباناً لسبط الرسول محمد صلى الله عليه وسلم، إرضاء لله تعالى رغم حداثة عهده بالإسلام الذي تلقاه من الإمام الحسين عليه السلام.


برير بن خضير

تميز الشهيد برير بن خضير رضي الله تعالى عنه وأرضاه بخصال عديدة، منها أنه أبرز قراء القرآن الكريم، وأحد الأتباع المخلصين لعلي بن أبي طالب عليه السلام، وإنه من الفرسان الذين عرفوا بالشجاعة، وأحد كرماء العرب، وكان برير عليه رضوان الله تعالى قد التحق بالإمام الحسين عليه السلام في مكة تاركاً الكوفة خلفه، وشهد تفاصيل الرحلة الحسينية من مكة إلى كربلاء المقدسة، فكان مع الإمام كظله، وألقى في يوم العاشر من محرم خطبة ناشد خلالها الأعداء أن يرجعوا إلى الله تعالى ولا يأثموا بقتل ابن بنت نبيه، وعندما لم يصغوا إليه خاض حربه بشرف حتى استشهد في سبيل الله تعالى، مدافعاً عن حرم الإسلام، ومحامياً عن آل بيت النبوة الكرام وفياً مخلصاً.


أبطال فائزون

إن سبعين رجلاً تقريباً هم الذين اصطفاهم الله تعالى ليكونوا أنصاراً للإمام الحسين عليه السلام في أحلك الأيام، فضربوا مثالاً للشجاعة والوفاء والشموخ والإباء في يوم كثر فيه الأعداء، وشح الأصدقاء، وانقطع الرجاء، ففضلوا رجاء الله سبحانه والمضي قدماً باتجاه الشهادة التي هي إحدى الحسنيين، تاركين خلفهم إرثاً عظيماً، ما زال الثوار في مختلف فجاج الأرض ينهلون منه، وهم يقارعون الباطل والبغي والفساد، مقدمين لأجل ذلك أرواحهم طلباً لمرضاة الرحمن الرحيم، بينما جنى الذين وقفوا ضد الحسين عليه السلام الخزي والعار والهوان والذكرى السيئة، وهي نتيجة ما كسبت أيديهم في ذلك اليوم المشهود، فطوبى للحسين عليه السلام ولآل بيته وأنصاره والخزي لقتلتهم.