جيسون هوروفيتز
ترجمة: خالد قاسم
استمتع ماتيو سالفيني بانتصار حزبه اليميني المتشدد "رابطة الشمال" الكبير في انتخابات البرلمان الأوروبي مما جعله مهيمنا على السياسة الايطالية وأقوى مطالب بزعامة الشعبويين الأوروبيين.
لكن اذا كانت أوروبا حاضنة للنزعة الوطنية المتنامية خلال السنوات الأخيرة، فهي تشعر بتحولها الى ساحة معركة نشيطة أيضا. مشروع الوحدة الأوروبية الذي يعود الى عشرات السنين صار على المحك، وأسهم التصويت بتنشيط جانبي الصراع في قارة شديدة الاستقطاب. وجرى التنافس بين وطنيين غاضبين وساخطين يريدون التراجع عن ما يرونه بيروقراطية بعيدة تجاوزت حدودها في بروكسل، أمام مؤيدين خاملين لأوروبا يريدون الدفاع عن الوحدة التي لم تعد مضمونة.
بينما زاد الشعبويون حصتهم من مقاعد البرلمان الأوروبي، لكنهم حرموا من إحداث زلة قارية كانوا يتوقعون حصولها، وخشي منتقدوهم منها، مع ارتفاع نسبة المشاركة في بعض المناطق الى أعلى مستوى منذ 20 سنة.
ولا يزال 75 بالمئة من الناخبين يؤيدون أحزابا تدعم أوروبا، ويمنعون نصرا كبيرا للشعبوية، ونالت أحزاب مؤيدة للاتحاد الأوروبي مثل الخضر مكاسب غير متوقعة.
أظهرت الانتخابات الأخيرة في الهند وأستراليا والفلبين دعما شعبيا لزعماء متشددين، ويحاول سالفيني وبقية الشعبويين الأوروبيين الضغط بالاتجاه نفسه. ويعارض هؤلاء الزعماء الهجرة ويساندون القومية ويهاجمون العولمة ويعدون بالعودة الى عصور ماضية أفضل.
لكن كما كشفت الانتخابات الأوروبية على نطاق واسع فتلك الجاذبية لها حدود، حاليا على الأقل، لأن المعارضين يحشدون أيضا في عصر التقلبات السياسية. وتبين استطلاعات الرأي أن الجمهور لا يريد تمزيق الاتحاد الأوروبي، واذا كان عدد كبير من الأشخاص يرغب بتغيير هذا التكتل فهم يختلفون بشأن كيفية انجاز ذلك.
تنافس جديد
بينت الانتخابات أن خطوط المعركة بين الشعبويين والأحزاب السائدة لا تزال تتشكل في ميدان سياسي حيوي ومعقد. يقول زكي لايدي، أستاذ ومحلل سياسي بمعهد باريس للدراسات السياسية: "التقسيم القديم بين اليمين واليسار حل مكانه انقسام كبير بين الشعبويين ومعادي الشعبويين."
كانت أوروبا تمر بحالة من الهياج السياسي منذ أزمة سنة 2008 المالية، والتي خلقت انقسامات بين الشمال والجنوب، والأغنياء والفقراء، وأنتجت حالات استياء انفجرت عبر رد فعل عنيف من الشعبويين بعد أزمة الهجرة سنة 2015.
وجدت الأحزاب الجديدة أو المهمشة سابقا في دول كثيرة ناخبين جدد لها بصورة مفاجئة، أما الأحزاب السائدة فتدهورت في اليونان وإسبانيا وإيطاليا وفرنسا وغيرها. وشهد أسبوع التصويت تفوق زعيمة أقصى اليمين الفرنسي مارين لوبان على الرئيس إيمانويل ماكرون الذي قدّم نفسه واجهة للحداثة المؤيدة لأوروبا.
أما شرق أوروبا، فيقود فيها زعيما اليمين من هنغاريا وبولندا حكومتي بلديهما ويشكلان تحديا للأعراف الديمقراطية والمؤسساتية للاتحاد الأوروبي. وفاز حزب فيكتور أوربان رئيس وزراء هنغاريا بأكثر من نصف عدد الأصوات.
لكن القوى الشعبوية لم تلب التوقعات لدى ألمانيا وغيرها، وجاء التهديد للأحزاب السائدة التي خسرت الأصوات من الأداء القوي للخضر والليبراليين ويؤيد كلاهما الاتحاد الأوروبي بقوة. أما ايطاليا، مسقط رأس الفاشية ولاحقا عضو مؤسس للكتلة الأوروبية، فقد تجاوز سالفيني أعلى التوقعات التي حددها بنفسه للنتائج، وعزز ذلك هيمنته على الحياة السياسية الايطالية.
لكن ترافق ذلك مع انهيار قوة شعبوية أخرى، أي حليفه حركة النجوم الخمس، اضافة الى الانتعاش المفاجئ للحزب الديمقراطي من يسار الوسط والمؤيد لأوروبا، بعد تجربته الفاشلة العام الماضي في الانتخابات الوطنية.
تقول الباحثة السياسية الايطالية ناتالي توتشي أن نتيجة التصويت وتجدد الفضاء السياسي الأوروبي بواسطة الناخبين الخضر والليبراليين تعني عدم تحقيق الوطنيين ما كان يخشاه الكثيرون.
تضيف توتشي أن انتصار سالفيني ضمن عزلة بلاده أوروبيا وترى خطته بتشكيل تحالف شعبوي داخل البرلمان الأوروبي مكون من 140 عضوا "لا علاقة له بالموضوع تماما." ولم يكن واضحا خارج ايطاليا وجود حركة شعبوية متماسكة عابرة للقوميات، وتذكر توتشي: "نعم، كلهم معارضون للهجرة لكن سالفيني هو الوحيد الذي يقول للدول الأوروبية الأخرى أن عليها تحمل العبء.. عليك محاولة اقناع أوربان بهذا، كن ضيفي. هذا هو هدف الشعبويين، إنهم شعبويون ولا يساعدون بعضهم بعضا."
تيار عالمي
مع أن شعبويي اليمين المتطرف لم يبلغوا الحد الأقصى من مخاوف الأحزاب السائدة، لكن سالفيني كسب ثلث أصوات بلاده.
وأنجز ذلك عبر ابحاره مع التيار المنتشر عالميا، حيث يضع زعماء روسيا والصين نسق التنافس الجيوسياسي، ويشكل ترامب اختبارا للفصل بين السلطات في الولايات المتحدة، وصعود زعماء يتمتعون بقبضة قوية الى السلطة بكل
مكان.
من أمثلة ذلك رئيس وزراء الهند اليميني ناريندرا مودي، الذي أعيد انتخابه بعد فوز ساحق بسبب أجندته الشعبوية التي تفضل الهندوس وتثير الخوف بين الأقليات لاسيما المسلمون.
أما الرئيس الفلبيني رودريغو دوتيرتي ففاز بمقاعد أكثر في مجلس الشيوخ وألغى كليا وجود المعارضة
داخله.
يقول ستيفانو ستيفانيني سفير ايطاليا السابق لدى حلف الناتو: "هناك تحول باتجاه اليمين للتوازن السياسي. ويحاول القادة تجنب المؤسسات والأنظمة التقليدية للفصل بين السلطات عبر التوجه مباشرة نحو الشعوب، وقد يؤدي ذلك الى مرحلة حيث تتخلص فعليا من
الديمقراطية."
لم نصل بعد الى تلك المرحلة، لكن ستيفانو يخشى أن مواقع التواصل الاجتماعي مثل فيسبوك وتويتر قد تسرع العملية "تواجه الديمقراطية المعاصرة الخطر نفسه الذي واجهته نظيرتها الإغريقية القديمة: التحول الى الاستبداد."
ويقول باحث سياسي ايطالي ان اضطرابات سياسة الهوية الأوروبية، وتشمل الهجرة والعولمة وعدم المساواة الاقتصادية، أدت الى تساؤل جدي بخصوص ديمقراطية السوق الحرة.
بدأت الأحزاب الموجودة بقلب الحياة السياسية الأوروبية منذ الحرب العالمية الثانية بالانهيار، وأضعفتها نتائج الانتخابات الأخيرة أكثر. بالمقابل، فإن "حزب بريكست" المؤقت الذي نشأ قبل أسابيع قليلة، كسب نحو 32 بالمئة من أصوات
بريطانيا.
الأمر الواضح من التاريخ الأوروبي الحديث هو تغير الأشياء بسرعة كبيرة، فقبل خمس سنوات فقط كان رئيس وزراء ايطاليا السابق ماتيو رينزي من الحزب الديمقراطي محور اليسار الأوروبي بعد فوزه بأكثر من 40 بالمئة في الانتخابات
الأوروبية. وتصدرت "حركة النجوم الخمس" الايطالية الانتخابات العامة الايطالية قبل سنة، لكنها خسرت الآن نصف تأييدها وتخلفت وراء الحزب الديمقراطي.