قوّة المنهج ومعادلة الطف

ريبورتاج 2024/07/23
...

 علي لفتة سعيد

لا يمكن القول إن معركة الطف كانت مجرّد مواجهةٍ بين طرفين، بل هي مواجهة لها جذورها التاريخيَّة، وقد سبقتها مواقف مختلفة، قبل قيامها في السنة الستين من الهجرة حين قدم الإمام الحسين (ع) الى العراق، لأنه اختار المنهج العقلي، حين قدم إلى مدينة الكوفة، لم يكن اعتباطا كما لم يكن قدوم أبيه الإمام علي (ع) الى العراق ليكون خليفة المسلمين والعاصمة الكوفة أيضاً. ولذا فإن ما حصل مع الإمام الحسين(ع) كان أكثر من معركةٍ، وأعلى من ثورةٍ، وأكثر من شعار انتصار الدم على السيف.

ولذا فإن من الممكن أنْ تكون هذه المعركة، جاءت لتكون منهج حياة أو كانت غايته لتكون المنهج الذي لا بُدَّ أنْ تسيرَ عليه من بعده الأمم وخاصة الإسلاميَّة، خاصة أنَّ المعركة يعلم الإمام (ع) انها لم تكن متساوية الطرفين في العدد، ولا في القوّة الظاهرة، ولا في عدّة السلاح، والإمام لم يكن راغبًا في خوض القتال وسفك الدماء حتى لدى الجيش الآخر. فهو يعلم أن النظرة الى هكذا معادلة من ناحية الحرب، ستكون معادلة لصالح الطرف الخائف على المنصب. فالإصلاح كان ما يريده الإمام الحسين (ع)، في حين كان المعسكر الآخر يريد الحكم. وهنا المعادلة التي لم يتساوَ طرفاها أيضاً. فالقوّة الظاهرة تميل الى السلطة الحاكمة، والقوّة الباطنة التي يمثلها الإصلاح المرجو بعد تراجع السلطة عن أداء مهامها يميل الى قوّة العقل التي تسعى الى التغيير. ومن هنا فإنَّ المنهج هو الذي كان النتيجة الكبرى التي أعطتها معركة الطف، والعقل هو الفائز الأكبر أمام طمع وعاطفة الحكم وغرورها، والتحكّم بالمقدّرات. لذا فإنَّ النصر لا يكون في لحظة المعركة أو بعيْدَ انتهائها، بل بما كانت في النهايات التالية أو البدايات التي تأتي بعد التغيّر الذي أحدثته المعركة، والتي لم يطلق عليه (الحرب) لأن طرفي المعركة لم يكن من الممكن أنْ يتساوى طرفاها. فكلّ طرفٍ له مميّزاته، سواء كانت الإيجابيَّة لطرف المنهج، أو السلبيَّة لطرف السلطة. ولهذا نرى أن النتائج النهائيَّة كانت تميل لصالح المنهج الإصلاحي، بعد أنْ غادرت السلطة كرسيها، وعاد النبض الى القلوب الخائفة من السلطة لتعطي الكلمة الى أن المنهج الحسيني هو الغالب.

فالمنهج باعتقادي أكثر قوّة من الثورة التي تحتاج الى عوامل انتصارها اللحظوي، في حين المنهج كان هو البدء منذ لحظة التفكير بمغادرة أرض نجد والحجاز، والتوجّه الى الكوفة، من أجل ممارسة القوة العقليَّة، والقوّة البلاغيَّة، والقوة الفقهيَّة المستمدّة قوّتها من الرسول الأعظم (ص) بوصفه السبط أوّلًا، والحامي للدين الذي جاء به الرسول (ص) وبوصفه المؤتمن على تصحيح المسار الذي خالفت فيها السلطة كلّ (القوة) بتنوّعها، وهذا التراجع سيصيب الأمة بمقتل. ولذا كان الإمام الحسين (ع) بحاجةٍ الى منطقة قوّةٍ لتنفيذ منهجه، ليس بمواجهة السلاح، فهو يعرف أنَّ المعادلة ليست في صالحه، أمام جبروت السلطة، وهو ما يحصل دوماً في كل الحكومات التي تعتمد على القوّة والخديعة والطغيان. 

وهذا المنهج كان يحتاج الى مغادرة السكون، ومقابلة الذلّة والخنوع بالفكر الذي يعيد العقول الى مسارها الديني والاجتماعي، وعدم ترك الحبل على غارب الفساد. إنَّ المنهج الحسيني هو الذي نحتاجه، لكي نتعلّم منه. ولذا فإنَّ من تعلّم منه واجه أيضا الضغط من قبل طرفين:

أوّلها: قوّة السلطة التي تريد من يعتمد على فاعليَّة العقل أمام الجبروت، لأنها ستسهم في حفر قبره ونهايته.

الثانية: قوةّ العاطفة التي لا تريد التنازل عن معتقداتها. وهي معادلة أيضا لم يتساو طرفاها.

لذا فإنَّ الحاجة الى ترتيب الفكر الذي أراده الإمام الحسين (ع) من أجل الوصول الى منطقةٍ وسط لتريب العقل المتشظّي الى عدّة غايات وأفكار، وتوزّعت القوّة بين الكلام الذي صار أكثر منه فعلًا. فحضر الصوت يبكل معانيه المختلفة، وصار المنهج له اتجاهاتٍ أخرى، لكنه أكثر قوّة في وجوده، لأن المنهج هو العقل الذي يرتّب طريقه وسبيله من أجل الاعتماد الكلي على المنهج. وهو ما يعني تحقيق مقولة انتصار الدم على السيف، بمعنى انتصار الإرادة على السلطة.