خفايا حركة حسن سريع

ريبورتاج 2024/07/25
...

 علي لفتة سعيد

في تموز تكون الأحداث محتدمة، كل شيء يتحرّك في الاتجاهات المتعاكسة في هذا الزمن الكوني، منذ زمن عشتار وتموز حتى الانقلابات والثورات والانتفاضات. وصار تموز علامة الخلاص في الفكر الثوري، مثلما هو علامة الجمر، سواء في الواقع المناخي أو الواقع الذي تحترق فيه الأمنيات. ولا حاجة لتعداد ما حصل في هذا الشهر، مما ذكرناه وغيره، فهي كثيرة ومعلومة. لكن حادثة وقعت في مطلع هذا الشهر، كانت غريبة ومتفردة وسريعة وفاعلة ومفاجئة في حينها، لكن لم يتبنها أحد.

الكثير أطلق عليها حركة حسن سريع الذي انطلق من معسكر الرشيد، والبعض يسميها انتفاضة لمن كانت له آراء وأيديولوجيات مناهضة لفترة الحكم في ذلك الوقت. لكنها حركة قام بها نائب عريف في الجيش العراقي، ربما كان متأثرًا بحركة العريف هتلر الذي تحوّل إلى زعيم أراد احتلال العالم وليس التحوّل في ألمانيا، حتى صار اسمه العلامة الكبرى في العالم والتاريخ.

يقول الباحث عباس الجبوري: إن هذه الحركة لم تساندها جهة، لذا ظلت بعض أسرارها مخفيةً. ويضيف لا يمكن عزل المناخ السياسي الذي كان متفجرًا في تلك الفترة والصراعات الحزبية عن الأمرـ فكلّ شيءٍ يرتبط بها، سواء كانت حركةً وطنيةً أو غير ذلك. لكن الأمر المؤسف أن المؤرخين لم يسعوا كثيرًا لتدوينها ومعرفة أسبابها والإحاطة بها، وظلّت مرهونةً لشفاهية من ينقلها ويتناقلها، ولم يكن هناك الكثير من الكتابات عنها إلا النزر اليسير، مثل كتاب (البيرية المسلحة) للدكتور علي كريم سعد.


التدوين والذاكرة

يقول الجبوري: إنه في فجر 3 تموز من عام 1963 خرج النائب عريف حسن سريع مع مجموعة من الجنود وضباط الصف في معسكر الرشيد وبمعركةٍ مباغتةٍ للسيطرة على المعسكر وبدؤوا بمشجب السلاح، حيث اشتعل المعسكر بعد الطلقة التنويرية التي أطلقها حسن سريع. وأضاف أن الهدف كان السيطرة على معسكر الرشيد بما فيه من وحدات من ضمنها المطار العسكري لما يمثله من أهميةٍ، كونه في قلب العاصمة بغداد ومن ثم تعميم الحركة لتشمل عموم العراق، والهدف الستراتيجي كان تغيير نظام الحكم.

ويشير إلى أن  ما ذكره الضابط رافد صبحي أديب يوضح الأمر، إذ قال "بدأ الأمر مع طلقات متسارعة وقوية وبدأت أصوات أقدام مسرعة وازداد أزيز الطلقات والمدافع الرشاشة، اقتربنا من شبابيك الغرف التي كنا محبوسين فيها في سجن رقم واحد، سمعنا صوت العريف قائلاً : (سيدي ثورة) ويشير الجبوري إلى أن إحدى خططه كانت مهاجمة سجن رقم واحد والسيطرة عليه، من أجل إطلاق سراح المعتقلين ليكونوا معه وهم بالمئات من الضباط والطيارين، خاصة أن مجموعة حسن سريع سيطروا على المطار العسكري في المعسكر، وتمت تهيئة الطائرات الحربية بانتظار طياريها، فضلاً عن القادة الشباب ومن مختلف صنوف الأسلحة ومن تمرّس بعضهم في مراكز حكومية قيادية طوال عهد الزعيم عبد الكريم الذين زجّوا في المعتقلات بعد انقلاب ٨شباط عام ١٩٦٣م.

ويبيّن الجبوري، أن أول من علم بالحركة من السلطة هو ضابط خفر في مقر القيادة العامة للحرس القومي، والذي اتصل بقائد الحرس ليبلغه أن مسلحين يهاجمون معسكر الرشيد. وعند وصول قائد الحرس القومي (منذر الونداوي) تم أسره واعتقاله من قبل جماعة حسن سريع، بعدها تم اعتقال وزير الداخلية (حازم جواد) والذي كان يشغل الأمين العام لحزب البعث، واعتقال وزير الخارجية (طالب شبيب) وآمر كتيبة الدبابات الأولى وغيرهم، ولم تتم تصفيتهم. لتدور  معركة داخل المعسكر، يقول عنها الجبوري كانت غير متكافئة، فالحركة لم يكن تخطيطها جيداً كما يبدو وإنها لم تكن بالتعاون مع ضباط كبار في مواقع عسكرية أخرى، بل ظلّت محصورةً في حدود معسكر الرشيد، وهو ما يعني اعتمادها على عنصر المفاجأة. فكانت آخر اطلاقة في الساعة الحادية عشرة قبل الظهر ليتم القبض على حسن سريع. 


محاكمة وإعدام

يقول الباحث: في المعتقل ردّد حسن سريع على أسماع المحققين أثناء جولات التعذيب مقولته الشهيرة (أنا المسؤول الأول عن الثورة). ويضيف أن الضابط (محمود علي سباهي) يذكر أنه حين رأى حسن سريع في التحقيق "كان مدمى" ويشير إلى أنه في المحكمة العسكرية المشكلة خصيصًا لمحاكمتهم، سأله رئيس المحكمة "هل تريد أن تصبح رئيساً للجمهورية وأنت نائب عريف؟" فأجابه حسن "ما أردت أن أكون رئيسًا للجمهورية أو ضابطًا في الجيش، إنما أردت أن أسقط حكومتكم" ويقصد حكومة الرئيس المشير عبد السلام عارف. ويشير الوزني إلى أن من ضمن أسئلة رئيس المحكمة العسكرية العقيد (شاكر مدحت السعود) كان سؤال "ماذا بشأن الذين اعتقلتموهم؟" أجاب حسن "كنا سنحاكمهم".

ويمضي بقوله، إن حكم الإعدام صدر وتم أخذه إلى ساحة الإعدام مع ستة وعشرين جنديًا وضابط صف، وعددٍ من المدنيين، ليصل العدد إلى46 معدومًا، بينما كانت حصيلة المعركة التي دارت ما بين ١٥٠إلى ٢٠٠ قتيل.


أسرار مدفونة

ظلت هذه الحركة أسيرة الظنون والحكايات الشخصية والشفاهية. ولم يسع المؤرخون كما يقول الباحث الجبوري إلى البحث عن الأسرار والخفايا والدافع الوطني الحقيقي أو البحث عن أسباب أخرى لحركته. لتبقى الأهواء هي التي تحرك حتى الذين كتبوا عنها أو تحدثوا، ويبيّن أنه بعد انقلاب ٨ شباط عام ١٩٦٣واسقاط حكومة الزعيم عبد الكريم قاسم وقعت مجازر رهيبة، إذ اقتيد الآلاف من المواطنين ومن كلا الجنسين إلى ساحات المدارس، ودوائر الدولة، والمراكز الأمنية، لإنهاء حياة الناس، وبدلًا من أن يعطوا دفعة لحياةٍ جديدة، كانت المجازر عنوان الحرس القومي واحدة من الأسباب التي جعلت حسن سريع يفكر بتنفيذ انتفاضته أو حركته، وخاصة الشعب كان أيضاً ساخطًا وغاضبًا.

ويرجع الجبوري بعض أسباب فشل الحركة إلى أنها لم تكن بالاتفاق مع قادة عسكريين في أماكن أخرى كقادة الألوية مثلاً، ثم أنها كانت حركةً محدودةً وأسلحةً قليلة، مقابل عديد القوات الحكومية وأسلحتها. فضلا عن عدم وجود إذاعة خاصة لهم، وأنها لم تبدأ كما تبدأ الانقلابات من القصر الجمهوري والإذاعة والتلفزيون والمطار. 

ويشير إلى أن حسن سريع ابن مدينة عين التمر بمحافظة كربلاء، ترك زوجةً تعاني ألم المخاض، لتلد بعد موته ابنةً في الشهر ذاته الذي انتفض فيه، والسنة ذاتها. ودعا الجبوري الجهات المسؤولة إلى إطلاق اسمه على إحدى مناطق معسكر الرشيد، أو أحد أسماء المباني التي شيّدت عليه.