الرقابة الخفيَّة!

الصفحة الاخيرة 2019/06/15
...

 جواد علي كسّار
في شهر شباط 2011م بدأ الإعلان في وسائل الإعلام العربية والأجنبية، عن كتاب من تأليف ملك الأردن عبد الله الثاني، بعنوان: «فرصتنا الأخيرة». صدر الكتاب فعلاً باللغة الإنكليزية، وعلى خطّ موازٍ نشرت «الشرق الأوسط» اللندنية ترجمة على حلقات لمختارات من الكتاب، قبل أن تصدر الترجمة العربية بأكملها عن دار الساقي.
يتحدّث الكتاب عن أطروحة خاصّة للسلام، لكن المهمّ هي المعلومات التاريخية التي يضمّها بين دفتيه عن الأردن والمنطقة، ومنهج الملك في إحداث تحوّل داخل الأردن من خلال الإصلاح ومكافحة الفساد، وتفشّي ثقافة الترهّل الإداري في مؤسّسات الدولة، والجنوح إلى الكسل والتسويف وتعطيل خدمة المواطن.
من النقاط المهمّة التي مكث عندها الملك طويلاً، هو غياب الرقابة ومن ثمّ شعور الموظف بالأمان وعدم الخوف من المحاسبة، في جميع ما يقوم به من مخالفات في تعويق معاملات المراجعين. يذكر الملك نصاً أنّه قام شخصياً بمراجعة واحدة من الدوائر، بعد تنكره بالزيّ العربي، ولم يصطحب معه سوى مرافق واحد، إذ ذهب إلى الدائرة وبيده ملف مراجعة، وقف كسائر المراجعين الآخرين بالصفّ، وراح يسمع كلام الناس مباشرة، وحكاياتهم مع أجهزة الدولة، ونقدهم للمسؤولين، دون أن يكشف هويته.
يذكر الملك أنّه مكث يتجرّع غصص الانتظار مع بقية مواطنيه، وقد لفت نظره أن الصفّ لا يتحرّك إلّا ببطءٍ شديد، ما كان يعني أن الموظفين المعنيين قد استرسلوا مع كسلهم دون خوف من العقاب، لغياب الرقابة، حتى إذا ما وصل إلى النافذة التي يجلس إليها الموظف، وجده منصرفاً بعيداً عن مكانه، قد ترك المراجعين هُملاً، كما ترك الباب مفتوحاً وقد تكدّست ملفات المراجعين على نحوٍ فوضوي، يغيب عنه الحرص على حرمة المواطن ومعاملته، ويكشف عن جرأة ووقاحة في تحدّي أنظمة الخدمة العامة. يذكر الملك أنه انتهز لحظة الفوضى والتسيّب هذه، والتقط مجموعة من الملفات المتروكة هملاً، ودفع بها إلى مرافقه الوحيد، وقفل عائداً إلى قصره.
من القصر استدعى الملك مدير الدائرة، وواجهه بالفوضى والإهمال في دائرته، واتهمه بضياع ملفات المراجعين، فأنكر مسؤول الدائرة القضية برمتها، فوضع الملك الملفات التي التقطها أمامه، فأُسقط في يده!
لستُ أدري فيما إذا كان الملك قد كرّر جولته التنكرية أم لا، إنما المهمّ عندي هو الدرس الذي استخلصه بهذه الصدمة العنيفة المباشرة، إذ يوضّح أن دوائر البلد جميعاً، صارت تعيش حالة القلق والخوف والترقّب، وهي تتوقع أن يكون الملك أحد مراجعيها، وقد تنكر واختلط مع بقية الناس، ما أدّى كما يذكر الملك، أن تشهد دوائر الدولة شيئا غير قليل من التحسّن في خدمة المراجعين، خوفاً من العقاب، تحت طائلة الرقابة الخفية.
تحدّثتُ يومها عن هذه الواقعة وغيرها ضمن برنامج تلفازي مباشر كنتُ أقدّمه، بعنوان «مع الناس»، وقد عدتُ إلى هذه الحادثة اليوم بمناسبة الخطوة الجريئة الرائعة التي قام بها مسؤول هيئة التقاعد ببغداد، عندما تنكّر وأجرى تفتيشاً ميدانياً على دائرته، وهو يحمل ملف مراجعة وكأنّه مواطن عادي.
إنّي على ثقة بأنّ إشاعة هذه المواقف الرقابية الميدانية المباشرة، وتحويلها من مواقف طارئة إلى ثقافة عملية، هو أحد وسائل القضاء على الإهمال واللامبالاة بمصالح الناس، وسلامٌ على أمير المؤمنين علي، وهو يُوصي بممارسة هذه الرقابة: «ثمّ تفقّد أعمالهم، وأبعث عليهم العيون من أهل الصدق والوفاء».