عادل الصويري
لم يبتعد ابن خلدون كثيراً عن رأي غالبيَّة «أهل السنة والجماعة» في قضيَّة الخروج على الحاكم الجائر، فكما هو معروف أن هناك آراءً تصل إلى الإجماع تذهب إلى عدم جواز الخروج على الحاكم حتى مع تعين فسقه وظلمه وجوره رغم أن هناك فئة تقول إن هذا الإجماع غير صحيح، وإن هناك خلافاً بين العلماء حول هذه القضيَّة. وبعضهم رأى أن الخلاف كان بين السنة من جهة والخوارج والمعتزلة من جهة أخرى، وراح بعض المهتمين يورد الأدلة والشواهد التاريخيَّة ليثبت عدم صحة هذا الإجماع كما في قضيَّة خروج ابن الأشعث على عبد الملك بن مروان وعامله على العراق الحجاج الثقفي والتي ذكرها ابن كثير في (البداية والنهاية) في أحداث سنة81 هجريَّة حين بايع الناس ابن الأشعث وقاموا بعزل الحجاج وساروا بجيشٍ يقدر بمئة وثلاثة وخمسين ألف مقاتلٍ لحرب عبد الملك بن مروان وانتصروا في بداية الأمر وفرَّ الحجاج إلى أن قتلَ ابن الأشعث.
ولسنا هنا نريد من خلال إيراد هذا الشاهد التاريخي إثبات صحَّة هذا الإجماع أو نفيه بقدر ما نريد الخوض في آراء المفكرين والعلماء ومنهم ابن خلدون وهو في رأي كثيرين من أكثر العلماء واقعيَّة في دراسة المجتمع البشري وأنَّ دراساتٍ وبحوثاً عديدة كتبت عنه بكتبٍ صدرت ومقالاتٍ نشرت في البلاد العربيَّة والغربيَّة.
وقد عاش ابن خلدون في زمنٍ كثرت فيه حالات الثورة، وكان القائمون على هذه الثورات يريدون إقامة دولة العدل بل أنّ بعضهم راح يدعي المهدويَّة بانتحاله شخصيَّة الإمام المهدي، وفي هذا الصدد يقول ابن خلدون: «ومن هذا الباب أحوال الثوار القائمين بتغيير المنكر من العامة والفقهاء فإنَّ كثيراً من المنتحلين للعبادة وسلوك طرق الدين يذهبون إلى القيام على أهل الجور من الأمراء داعين إلى تغيير المنكر والنهي عنه، والأمر بالمعروف رجاءً في الثواب عليه من الله فيكثر أتباعهم والمتشبثون بهم من الغوغاء والدهماء ويعرضون أنفسهم في ذلك للمهالك، وأكثرهم يهلكون مأزورين غير مأجورين».
نعتقد أنَّ هذا النصّ الذي جاء في مقدمة ابن خلدون الشهيرة مليءٌ بالمتناقضات فهو يصفُ الذين يقومون على أهل الجور من الأمراء بمنتحلي العبادة وسلوك طرق الدين وفي ذات الوقت يؤكد أنَّ الحكام الذين تمَّ الخروج عليهم وعلى حكمهم بأهل الجور!
كما أننا لا نجد سبباً لإطلاق توصيفٍ قاسٍ كوصف الغوغاء الذي أطلقه على الذين يلتفون حول هذا الثائر على أمراء الجور، كما نجده يتطرف في حكمه بأنهم يهلكون مأزورين غير مأجورين. ولا نعلم إنْ كان ابن خلدون قد اطلع على آراء من يتبناهم فكراً ومذهباً بقضيَّة (الخطأ في الاجتهاد) التي تحدث عنها الكثير من علمائهم وفقهائهم ومنهم ابن تيميَّة إذا ما علمنا أنَّ ابن خلدون من المتأثرين به، حيث يذهب إلى أنَّ المجتهد المخطئ له أجرٌ لأنَّ قصده الحق… إلى آخر النص، فلماذا لم يعتبر ابن خلدون من وصفهم بالغوغاء ومنتحلي العبادة مجتهدين اخطأوا؟ وهذا تناقضٌ واضحٌ وصريح.
ولا يمكن لأي باحثٍ يتتبعُ أحوالَ الثورات التي خرجت على حكام الجور والفسق إغفال ثورة الإمام الحسين صلوات الله عليه كونها شكلت لحظة مفصليَّة مهمة في صراع إرادتي الحق المتمثل بمحمد وآله صلوات الله عليهم والباطل المتمثل بالنهج المنحرف، وكان من الطبيعي ألا يغفلها ابن خلدون في بيان رؤيته لقضيَّة الخروج على الحاكم.
وبعد أنْ أوردنا رأيه في هذه القضيَّة بشكلٍ عامٍ والتناقضات الواضحة في نصه السابق نجده - مرة ثانية - يتناقضُ مع رأيه حين يتحدث عن نهضة الإمام الحسين عليه السلام فيقول في هذا الصدد:
«وأما الحسين فإنه لما ظهر فسق يزيد عند الكافة من أهل عصره بعثت شيعة أهل الكوفة للحسين أنْ يأتيهم فيقوموا بأمره، فرأي الحسين أنَّ الخروج على يزيد متعين من أجل فسقه لا سيما من له القدرة عليه، وظنها من نفسه بأهليته وشوكته، فأما الأهليَّة فكانت كما ظن وزيادة، وأما الشوكة فغلط يرحمه الله فيها، لأنَّ عصبيَّة مضر كانت في قريش وعصبيَّة قريش في عبد مناف وعصبيَّة عبد مناف إنما كانت في بني أميَّة، تعرف ذلك لهم قريش وسائر الناس لا ينكرونه فقد تبين لك غلط الحسين، إلا أنه أمرٌ دنيويٌ لا يضر الغلط فيه، وأما الحكم الشرعي فلم يغلط فيه لأنه منوطٌ بظنه وكان ظنه القدرة عليه، وأما غير الحسين من الصحابة الذين كانوا بالحجاز ومع يزيد بالشام والعراق ومن التابعين لهم فرأوا أنَّ الخروج على يزيد وإنْ كان فاسقاً لا يجوز لما ينشأ عنه من الهرج والدماء فأقصروا عن ذلك ولم يتابعوا الحسين، ولم ينكروا عليه ولا أثموه لأنه مجتهد وهو أسوة المجتهدين».
إنَّ أول شيء يمكن ملاحظته في هذا النص الخلدوني هو أن صاحبه ابن خلدون خلط الأمور ببعضها ويبدو أنَّ الأفكار انفرطت منه دون أنْ يتمكن من لملمتها، حيث نراه يقول بغلط الإمام الحسين - والعياذ بالله - في مسألة قدرته على النجاح في ثورته العظيمة لأنه رآها ببصره القاصر دنيويَّة كما جاء في نصه المتذبذب السابق، بل انه يجزم بغلطه حين يؤكده بقوله (وقد تبين لك غلط الحسين) مستنداً على مفاهيم العصبيَّة والقبليَّة التي لاحظَّ لها عند تعلق الأمر بالاستقصاء العلمي والمعرفي، ومن المؤكد أن ابن خلدون لا يخالف إجماع المسلمين في أنَّ الإمام الحسين (صلوات الله عليه) من أهل البيت الذين نزلت فيهم آيَّة التطهير المباركة، فكيف لمن طهره الله من الرجس وعصمه من الخطأ أنْ يغلط؟
وفي ذات الوقت يقول إنَّ الخروج على يزيد الفاجر شرعي لذلك فهو مجتهد مأجور، فما الذي جعله يغير رأيه هنا وهو الذي أكد في نصه الأول أنَّ الذين يخرجون على الحكام والأمراء من أهل الفسق والجور أنهم غوغاء ويهلكون مأزورين غير مأجورين فأي تناقضٍ هذا الذي وقع فيه الرجل؟
كما أنه في هذا النص أشار لموقف الصحابة والتابعين في الحجاز والشام والعراق وكيف أنَّهم لم يلتحقوا بالحسين (عليه السلام) وفي ذات الوقت لم ينكروا عليه خروجه، لكنه لم يذكر رأيه الصريح في موقفهم المتذبذب هذا.
نعتقد أنَّ سرَّ تناقض ابن خلدون في رؤيته تجاه ثورة الإمام الحسين (عليه السلام) يعود إلى الصراع الذي عاشه بين بين عقيدته المتشددة وبين الموضوعيَّة التي تفرض رأياً ناضجاً ذا رؤية واضحة ومتجردة من كل عصبيَّة لا بُدَّ للباحث المنصف أنْ يتجنبها ويبتعد عنها حين يريد الخوض بقضيَّة معينة، فقد روى ابن حجر العسقلاني رواية تؤكد أنَّ ابن خلدون كان من مناصري رأي ابن العربي القائل بأنَّ الحسين قُتِلَ بسيف جده وهو رأيٌ باطلٌ تحول إلى شبه عقيدة عند الكثير من مخالفي أهل البيت (عليهم السلام) وما زالت تضلل الناس، بل إن ابن خلدون - بحسب رواية ابن حجر- لم يكتف بتبني هذا الرأي بل وثقه في النسخة الأولى من مقدمته، ما يدلل على أنه تراجع عن رأيه خشية أنْ يتهم بالتشدد وبعدم الإنصاف دون أنْ يلتفت إلى المغالطات والمتناقضات العديدة التي سقط فيها.