بغداد: نوارة محمد
إذا كان ثمة ما يميز البيت العراقي فإن وجود "استكان الشاي" يقع في مقدمة هذه الأشياء، عادة شُرب الشاي التي لا يمكن للفرد العراقي ألا يمارسها يعدها مختصون حالة أدمان، ويعتقد فريق آخر أن هذا الاستهلاك يرتبط بالموروث الشعبي، وهو واحد من التقاليد المتوارثة التي تعود لمئات السنين.
لكن في العودة إلى تاريخ هذه العادة في الموروث الشعبي، يؤكد الناقد والباحث في الأنثروبولجيا الدكتور علي حداد: العراقيون في معظم أصولهم قبائل عربية كان مشروبهم الأساس هو القهوة، لاسيما أنهم من أصول قبائل يمنية، واليمن هي أول الشعوب التي انتجت البن، ومما يؤكد ذلك أنها تدعى حتى الوقت الحاضر من قبل البلدان الاوربية القهوة الموكا ويقصد بها ميناء المخا الذي كانت تصدر منه، وبهذا فالعراقيون اعتادوا في مضايفهم ومجالسهم على تقديم القهوة.
ويتابع: لكن في التزامن مع الاحتلال البريطاني على العراق ودخول المقاتلين المجندين من الهند الذين جلبوا معهم، وحين نذكر الهند فأننا نتحدث عن الهند الكبرى غير الخاضعة للتقسيم - باكستان وبنغلادش وسيلان والهند الحالية، وهذه الاعداد الكبيرة المجندة في الجيش البريطاني نقلت عادة شرب الشاي.
من ذلك الوقت عرفه العراقيون وأعجبهم شربه، ومع تطور الحياة لاسيما في مدن بغداد والبصرة ومراكز المحافظات، بدأت تلك المقاهي التي في الغالب تقدم الشاي وتبيعه، وصار الشاي يقدم في مجالسهم، والدليل أن اسم المقهى مرتبط بالقهوة ومأخوذ من حروفها، مع أن المشروب الشائع فيها غالبا هو الشاي.
ويضيف: هذا أسس لوجود هذا المشروب الذي يبدو أنه أيضاً لم يكن أرخص من القهوة فحسب، اسهل تحضيرا من القهوة، والقهوة تحتاج إلى تحضير البن وتحميصه وطحنه، وهذا يعني أن عمليات كثيرة تجرى عليه حتى يتحول إلى مسحوق القهوة. فلذلك ارتبط مجلس القهوة في المضيف وما يتداول فيه.
أما الشاي فأصبح مع الوقت لسهولة تحضيره مشروباً شعبياً تداوله العراقيون واهتموا به، ومن الطرائف أن مرحلة ما في الأدب الشعبي شهدت تداولا لنصوص تحاول أن تقارن بين مشروبي الشاي والقهوة، وأيهما الأفضل والأقرب إلى الناس وتداوله، وأقيمت مناظرات شعرية بين الشاي والقهوة تصب معظمها على هذه الجدلية التي يعايشها الإنسان في بيئته، لاسيما بين البيئة الريفية والمدنية حيث ظلت القهوة في البيئة الريفية أكثر حضوراً.
أما البيئة المدينة فهيمن مشروب الشاي، وبعد ذلك عرف الشعب العراقي أنواعا من الشاي منها "النومي بصرة والكوجرات"، ولكن بقي الشاي السيلاني هو المفضل لديهم، "نعم، العراقيون كانوا ولا يزالون لا يعرفون عن شرب الشاي حّرا ولا بردا، ولا يبالون إذا ما ارتُشف على معدة خاوية أو ممتلئة، لكن هل يّعي مدمنو هذا المشروب خطورة كثرة شرب الشاي؟
أخصائي أمراض الجهاز الهضمي د. حليم الأسدي يبين: يفضل كثيرون بدأ يومهم بشرب كوب شاي اثناء تناول وجبة الفطور أو على معدة فارغة، وهم غير مبالين بآثاره الجانبية.
ويؤكد أن "احتواءه على نسبة عالية من الكافيين يؤدي بشكل كبير إلى ارتفاع الحموضة، إذا ما شُرب على معدة خاوية، ويمكن أن يؤدي شاي الصباح إلى التخلص من البكتيريا من الفم إلى الأمعاء، والتي تتداخل بدورها مع البكتيريا الجيدة، ما يمكن أن يعطل عملية التمثيل الغذائي ويؤدي إلى اضطراب المعدة، الى جانب كونه قد يكون سبباً في مع امتصاص العناصر الغذائية الضرورية للجسم.
لكن هذا الاستهلاك يعد مصدر رزق لكثير من الأسر ومهنة لأغلب ممن يعيلون أسراً كبيرة وبرقبتهم نساء وأطفال، وهم غالبا ما يتواجدون في المناطق الحيوية، التي تكتظ بالسكان، يشير سامي جميل إلى أنه ومنذ أن كّبرت وجدتني في هذه البسطة الصغيرة، أصنع الشاي وأبيعه على المواطنين الذين يتوافدون ليلاً ونهارا، مؤكدا: ليس هناك ما يمنع العراقيين عن شرب الشاي، لا الليل ولا النهار، نحن نعتبر كل ساعات اليوم هي ساعات ذروة لشرب الشاي، حتى في الشمس الحارقة يقف زبائني عند عتبة البسطة يرتشفون أكواب الشاي واحدت تِلو الآخر، معتبرا أنها المهنة التي تجسد مصدر رزقه وعائلته، وكثيرون ممن عاشوا وكبروا وهم يمارسون مهنة صنع الشاي، التي لا تحتاج لرأس مال سوى السكر والشاي وبعض المُعدات البسيطة.
ومن وجهة نظر كمال عبدالله فإن "شرب الشاي يجسد روتينا لتجمع العائلة بعد وجبات الطعام، وهو لا يقتصر على حالة معينة، أننا نقدم الشاي في اغلب الحالات والمناسبات، في الأفراح أو الأحزان على حّد
سواء". ويبين أنه "مثل كثيرين يحرص على شُرب أكواب الشاي حتى لو تجاوزت درجة الحرارة خمسين درجة مئوية."