متلازمة الإفراط.. أفول هالة العمل الفني
عزالدين بوركة
كم هي أرض هذا العصر ملطخة بالدماء.. إنه زمن النهايات بامتياز، أو بلغة أدق إنه زمن الميتات المتعددة: ضحاياه كثر، ولم يسلم من سيوفه وبنادقه الرشاشة ومدافعه الآلية أحد. أليست الدماء التي أريقت بين الحربين العالمتين أشد حمرة من كل الحروب السابقة عنهما مجتمعة؟ سمة عصرنا إذن، هي الموت، أو النهاية بلغة مهذبة واستتيقية مثلما يحبّ النقاد استعمالها.
غير أنه لا بد أن نقرّ بأن لا موت ولا نهاية من دون أزمة، بعدها لحظة التشخيص بالمعنى الأولي، ولحظة تأكيد استحالة المواصلة في شاكلة ما هو كائن، بالمعنى الرائج. الأزمة إجهار وإنذار بضرورة الانعطاف صوب مسار مغاير، بعد بلوغ الطريق الأولى أقصاها واستفاء مبتغاها. فإن كانت سمة التاريخ البشري هي النهايات، فالأزمات هي عنوانه البارز.
تخبرنا الأزمة بانعراج قادم، تبشر الجيل المتمرد بحلول زمنه وتُخطر الجيل السابق ببلوغ عصره منتهى شرطه الوجودي.. مثلما حدث مع لوحات البوب آرت، التي كانت إبانة صارخة بنهاية حداثة فنية وميلاد ما بعد تلك الحداثة.. يُختلف في تسميتها، بين المعاصرة وما بعد الحداثة وما بعد الطلائعية.. وغيرها من التسميات. لكن المشترك الواحد بينها هو إبلاغنا بأن زمنا ولى انتهى وحل زمن بديل.
تصير النهاية ها هنا جسرا وقنطرة. وتغدو الأزمة جهازا كاشفا عن حالات استعصاء وعدم القدرة على المواكبة، وفي الوقت عينه أداة إزالة الحجاب عما هو قادم. ولعل أهم أزمة عرفها عصرنا وعرفها الفن منذ منعطف القرن الماضي، هي تلك اللحظة التي أعلن فيها والتربيامين عن أفول هالة العمل الفني، في عصر موسوم بإ.
عادة الإنتاج المفرطة. كل شيء معرض في زمننا هذا إلى متلازمة الافراط "نتحدث عن الاستهلاك المفرط، والسمنة المفرطة، والإدمان المفرط، وحتى الحساسيات البصرية المفرطة".
أدرك بنيامين النهاية الفعلية للقيمة القدسية التي ظل الأثر الفني يتوفر عليها، رغم كل التحولات والنهايات السابقة، لصالح الإعلاء من قيمة العرض وآلية النسخ والتكرار. لقد فقد الفن الهالة الدافئة التي تشع من بعيد، واستبدلها بلمعان الاستهلاك المتكرر والنسخ المضاعف. لم نعد نتحدث عن الفرادة والتفرد والعمل الوحيد، فقد أخذ السيمولاكر بزمام الأمور. إذ لم يعد يعني الصورة المشوهة وغير الأصلية، فكل نسخة هي أصلية، من حيث إنها نسخة طبق الأصل. وما دامت كل الأعمال قابلة للتكرار، مقيمة في المصنع، الذي يدير الفنان- المقاول، فقد انتهت الموهبة وأفلت، وحجه السوق الذي يمتلك القدرة على تحديد ما العمل الفني ومن هو الفنان؟ وبالمقابل انتهى الذوق، الاستهلاك هو الحكم، أنا أستهلك إذن أنا موجود.
لم يعد العمل الفني مقيما في النظر، موطنه الحالي جغرافيا الزوال. كل شيء سريع الاندثار، لقد تولد هذا التسارع صوب النهايات، مع ما دشنه وما سماه أندري واروول، ومن صاحبه في مصنعه الشهير، بمشاهير الـ15 دقيقة.. مشاهير سريعو الاختفاء بعد لحظة شهرة ساطعة ولامعة. بريق الشهرة هذا شبيه بوميض يعمي ويختفي لينسى كأنه لم يحدث. وهو ما ترتب عنه من برامج الواقع.. صاحبه موت للمؤلف وحياة أبدية للمشاهد، الذي تحول إلى صانع أساس للعمل الفني: الكل فنان.
نهاية الفنان بمعناه الحديث والكلاسيكي، وميلاد الفنان المقيم في جغرافيات الزوال، المتوجس من سرعة النسيان، لهذا عليه أن يستسلم لسلطان السوق، وينتج ليظهر لا ليُبدع في أحايين كثيرة. أنا أنتج إذن أنا موجود، يقول. لهذا لا تنصرف أزمات الفن المعاصر عن أزمات السوق. لقد ولى وانتهى عصر الالتزام، الفنان يبحث اليوم عن أن يصير مكرسا ورسميا "أو مثلما تقول إحدى الفنانات: الفن المعاصر فن الدولة وفن للدولرة"، مهما كلف آثاره من زوال الاستتيقا وغياب الروح. فتعلو في هذا المقام الفرجة ويموت
المعنى.
لسنا هنا في محاكمة علنية للفن المعاصر مثلما قام بذلك بودريار، الذي وصفه بأنه "فن العصر المنهك". فلكل زمن رجالاته، وبالتالي فنه الخاص. هو ما يبتغي البعض تسميته بالبراديغم. ذلك المحدد العام للأفكار السائدة والتي تؤطر كل التصورات التي يعرفها العصر. لا يستقيم الحديث عن فن لهذا الزمان، إلا أن يكون معاصرا، بالمعنى الفكري والفلسفي الذي تحمله الكلمة. لكن لا تلغي المعاصرة إمكانية التعايش مع باقي الفنون والآثار، التي تتصل بالبراديغمات السابقة. ملامح عصرنا التشظي والتفكك، وغياب اليقين والتدمير المستمر، وزوال الحدود وغياب التجنيس، وذوبان الجغرافيات في سوق حرة واحدة والتعدد والانزياح، وعدم التحديد والسطحية أو اللاعمق والسخرية والسيمولاكر.. وهي كلها مفاهيم يتناولها الفن المعاصر تحت يافطة ما بعد الحداثة، وتبدع مجموعة من الفنانين في الاستعانة بها لنقد مآلات هذا العصر المجهولة والغريبة، وحالاته المرضية العضالة.
في عالم يشهد تغيرًا دائمًا، حيث تتذبذب اليقينيات، وحيث فقدت السرديات العظيمة قوتها التفسيرية، يظل الفن الملجأ الأول والأخير للفكر الحر والإبداع الجذري. باحتضانه مجازات الموت: موت الفن وموت الإله وموت الإنسان وموت الحقيقة وموت الواقع وموت اللوحة وحتى موت الفن.. يستكشف الفنانون المعاصرون طرقًا جديدة لفهم العالم الذي نعيش فيه. وفي هذا البحث المستمر عن الحقيقة والمعنى، يستمر الفن في لعب دور حاسم كمرآة لحالتنا الإنسانية، حيث يقدم وجهات نظر فريدة حول وجودنا ومصائرنا المشتركة. كأنّه لا بد من "الموت" حتى نتقدم، أي أن تنتهي حقبة حتى تولد أخرى.. تحقيق تراجيدي مستدام لأسطورة العنقاء التي تحيا من رمادها، غير أن البعث هنا له صفات جديدة، يرتدي الفن فيه جسدا بديلا ومغايرا.
ومن هذا المنظور، يمكن عدّ نهاية الفن، أو موته بالتعبير المتداول، جزءًا لا يتجزأ من العملية الإبداعية. وهو الخطاب الذي ابتدأ منذ القرن الأول ميلادي، مرورا بإعلانات متعددة لهذا الموت.. فها هو هيغل يلخص هذه النهايات المتعدد بقوله "ويبقى الفن بالنسبة لنا من حيث هدفه الأسمى شيئا من الماضي". إنه إذن إقامة في الماضي، موت متحقق باستمرار، لا يشهد على نهايته إلا أثر: العمل الفني، بوصفه تابوته الخالد. ما يجعل من الفن بحد قول آرثر دانتو "خارج حدود التاريخ". وهو أيضا يُصَيِّر منه بالنسبة لهذا الفيلسوف الأمريكي موضوعا فلسفيا بامتياز.. إذ أصبح بالنسبة لنا موضوعًا للتصوّر والتأمل ولم يعد يتمتع بالمباشرة، مشبعا بالامتلاء الحيوي، إذ بعد تجاوزه للميتات السابقة وللولادات المتعددة، بلغ الفن ما بعد نهايته، أفقا خارج تصنيف التاريخ، مقيما في برزخ بعيد عن كل التصورات العقلانية والروحانية السابقة، وقادرا على احتواء كل شيء وأي شيء، نسميه بالمعاصرة. وقد بات مقيما خارج أسوار التاريخ، أي إنه قابع في البين- بين، في تخوم برزخية
شفافة. ما يجعل منه رهين التفكير والخطاب اليوم، و"مهما كان عليه الفن، فإنّه لم يعد شيئا أساسيّا جديرا بالنظر. ربّما كان جديرا بالتحديث، ولكنّه ليس جديرا بالنظر أساساً". وعلى هذا التعريف للفن والحياة يرتكز فكر نيتشه، الذي سيرى في الفن العلاج والبديل للفكر العقلاني، والذي سوف يمجّده بوصفه وهما بديلا – لا بد منه- وبعدّه شكلا جديدا
للحياة.