{حمّى البحر المتوسط}.. روائي يناصرُ فلسطين بالقوة الناعمة

ثقافة 2024/08/05
...

  عدنان حسين أحمد


ينتمي الفيلم الروائي الدرامي "حمى البحر المتوسط" للمخرجة الفلسطينية مها الحاج إلى أفلام "الكوميديا السوداء" التي تتمحور على موضوع مأساوي يتم تناوله بطريقة فكاهية ساخرة. ومن يتأمل هذا الفيلم جيدا سيكتشف بسهولة أن السخرية والنقد اللاذع موجودان بين طياته، لكنه يحتفظ بجديته على مدار المدة الزمنية التي بلغت 108 دقائق. تتسيّد في هذا الفيلم شخصيتان وهما وليد الذي جسد دوره بإتقان شديد الفنان (عامر حليحل) وجلال الذي أدى دوره ببراعة يغبط عليها الفنان (أشرف فرح).

وقد تمكّن هذان الفنانان من سرقة الأضواء من بقية الممثلين الذين أسهموا في هذا الفيلم، وكأن التركيز كان مُنصبًا على هاتين الشخصيتين اللتين تناصفتا دور البطولة وتألقتا فيه.
لا بدّ من الإشارة إلى أن المخرجة مها الحاج هي نفسها كاتبة السيناريو التي أرادت أن تحقق رؤيتها الإخراجية المُرهفة وأن تقول ما تريد في هذا الفيلم الهادف الذي تميّز بتقشفه في الشخصيات وارتكز على شخصيتين متناقضتين تمامًا لتعزيز الأفكار التي كانت تدور في مخيلتها في لحظات الكتابة والتصوير، إذا ما اعتبرنا المونتاج من حصة المونتير أو المونتيرة على وجه
التحديد.
يعيش وليد مع زوجته وطفليه بمدينة حيفا ويقدم استقالته من العمل ليتفرغ لكتابة الرواية، لكنه يعاني من الاحتباس الإبداعي وانحسار الوحي والإلهام، كما أنه يعاني من اكتئاب شديد لأسباب ذاتية وموضوعية لعل أبرزها القضية الفلسطينية التي تؤرقه ليل نهار.
أمّا الشخص الثاني فهو جلال جاره الجديد الذي انتقل إلى البناية نفسها، وسوف نكتشف بالتدريج أنه شخص محتال ومخادع ولا يبالي بأي شيء بما في ذلك القضية الفلسطينية التي يسخر منها، ومن المهتمين بها، والداعمين لها. وأكثر من ذلك فهو شخص اجتماعي يحب الموسيقى والغناء ولا يجد حرجًا في رفع صوت المسجِّل الذي يزعج الروائي المُرتقب وهو يبحث عن ثيمة روائية لم تهبط عليه من سماء الوحي بعد، ولم تُفدهُ صور الكُتّاب العالميين والعرب المعلقة على جدران مكتبه.  ومع ذلك تنشأ بينهما صداقة عميقة تفضي بهما إلى كثير من الأماكن والأحداث الدايستوبية
المظلمة.
وإذا كان وليد مهتمًا بالكتابة فقط فإنّ نقيضه جلال متعدد الاهتمامات فهو بنّاء، ومصلّح أنابيب، ودهّان، ورجل عصابات، ولا يتردد في العمل بأي مهنة، وأكثر من ذلك فهو يمتلك كلبين كبيرين يحمل الأول اسم "الخنساء" وينضوي الثاني تحت اسم
"الأخطل". وقد عبّر عن اهتمامه بحصة الشعر العربي القديم الذي كان يفضّله على الحصص الدراسية الأخرى. ولعل ما يجمع هاتين الشخصيتين المتناقضتين هو الأعمال المنزلية، فكلاهما رب أسرة، وبيتوتي، ويقوم بالأعمال المنزلية لأنّ زوجتيهما موظفتان ولا نراهما إلاّ بعد انتهاء الدوام
الرسمي.
تتطور الأحداث ونكتشف أن الكاتب وليد الذي لم يُصدر روايته الأولى بعد يبحث عن قاتل مأجور بعد أن اكتشف أن صديقه جلال يطعن شخصًا اقترض منه مبلغًا من المال ولم يُرجعه في الوقت المحدد، وبما أنه شخص يائس ومُكتئب فلا يجد حرجًا في أن يطلب من صديقه جلال أن يقتلهُ في رحلة صيد الخنازير الليلية، فبدلاً من أن يسدّد فوّهة بندقيته إلى خنزير عابر يُصوبها إليه ويضع حدًا لحياته الكئيبة السوداء، لكن جلالًا يرفض هذه الفكرة المعتوهة ويهدده بقطع العلاقة كليًا إن هو استمر في مواصلة هذا الطلب
اللامعقول.
يستعر النقاش بين الطرفين فيؤكد وليد بأنّ: "الجبان هو الذي يخاف من الموت" بينما يعترض جلال على هذه الفكرة وينفيها حينما يقول بأنّ الجبان هو "الذي يخاف من الحياة" ولا يريد أن يخوض غمارها. وحينما يشارف الفيلم على نهايته يأتي طبيب تخدير ويسكن في العمارة ذاتها، فيدعوه وليد لتناول الشاي ولعله يستفيد من تخصصه في التخدير وتجليات هذه المهنة التي قد تفضي إلى "الغياب أو الموت" كما ذهب أحد النقاد
السينمائيين.
وفي ما يتعلق بعنوان الفيلم "حمّى البحر المتوسط" فإن ابن وليد يعاني من هذه الحمّى التي تصيب أبناء البحر الأبيض المتوسط، لكنها تتفاقم كل ثلاثاء حينما يحضر الطفل درس الجغرافية الذي أجاب فيه معلمته ذات مرة بأنّ القدس هي عاصمة فلسطين، بينما يؤكد الأب الذي يرفض جلسات العلاج النفسي التي تزيد الطين بلّة بأنه فلسطيني وأنّ ديانته "فلسطينية" أيضًا رغم أن استمارة الطبيبة الإسرائيلية لا تقبل بهذه
الإجابات.
يتمحور هذا الفيلم على القضية الفلسطينية رغم خلوه من الشعارات الطنّانة فهو يقول أشياء كثيرة على لسان وليد وابنه المصاب بحمى البحر المتوسط. أنجزت مها الحاج حتى الآن خمسة أفلام من بينها  "أمور شخصية"، و "حمّى البحر
المتوسط".