جينا سلطان
يكاد الموت، بوصفه المعادل لزوال الأشكال الحيَّة وانمحائها، أن يكون الثابت الوحيد في مصفوفة النظام الشمسي، مما يحتم على الإنسان تكوين عالمه وطرازه البشري وفقاً لهذه الحقيقة. ولأن حياتنا دائماً ما ترتبط بالموت، وحبنا بالخسارة وحريتنا بالخوف، وازدهارنا بالافتراق، فنحن جميعاً شركاء في محنة الوجود.
أما الثغرات الفكريّة المتأتية عن متواليات الأسئلة الوجوديّة، أمثال: لماذا أتينا وكيف خلقنا وإلى أين سينتهي بنا المطاف فتحولنا إلى مخلوقات مفطورة على البحث عن المعنى والهدف من الحياة. وهو المغزى من عبارة العالم النفسي جون دون "لا تحاول أن تعرف لمن تقرع الأجراس؛ إنّها تقرع من أجلك أنت". لذلك يتأتى التشويش والخلل الداخلي لدى البعض من رفضهم لقرض الحياة، تجنباً لاستحقاق دين الموت، بحسب أوتو فرانك، فيعمدون إلى التماس الإجابات عند المحللين النفسيين.
نجحت الترجمات الجيدة لكتب وروايات الطبيب والمحلل النفسي الأمريكي من أصول روسية إرفين يالوم، في تقريب طرق تعاطي العالم الغربي مع المعضلة الوجودية، المتمثلة في الكائن الباحث عن المعنى واليقين في عالم يخلو من كليهما. ومنها أخذ المدد من الفلسفة في روايته علاج شوبنهار، ووضعها خلف قاعدة اللاهوت التوراتي في رواية مشكلة سبينوزا ومساءلتها علانية عن عقدة التفوق الآري والهلاوس المتأتية عنها في رواية حينما بكى نيتشه. بالمقابل، يرسم في كتاب تعرية الحب خطوات العلاج النفسي، ويشدد على ضرورة تحلي المعالج بمقدرة تحمل عدم اليقين الذي يضطر إلى مواجهته في حياته اليومية، كشرط أساسي لمزاولة هذه المهنة المعقدة. أضف إلى ذلك التعامل الحكيم مع خصوصية تجربة الآخر التي لا يمكن الإحاطة بها كلياً، مما يضعه في مواجهة أسئلة المريض ذاتها والمستعصية على الإجابة.
تشكل النماذج القصصيَّة الاثني عشرة الواردة في كتاب تعرية الحب دليل العمل للمحليين النفسين، وتعطي في الوقت نفسه مقاربة عملية لكيفية تدريب العقل على اليقظة التي تؤهله لمعاينة المشكلات الوجودية والتكيف معها. وتتمحور تلك اليقظة حول تحمل المريض المسؤولية عن مأزقه الخاص. فما دام المرء يظن أن مشاكله ناتجة عن تأثير خارجي، فلا فائدة ترتجى من العلاج، إذ لن يرى سبباً يدفعه إلى تغيير نفسه. وبذلك يتماهى يالوم بمقولة سقراط: "الحياة التي لا نتفحّصها غير صالحة للعيش"، ويجعلها عقيدته الأهم.
توضح القصص أيضا الدور المزدوج الذي يلعبه المعالج النفسي، كمراقب لحياة المريض ومشارك فيها، وتعكس تخبطه وارتجاله وهو يتحسس طريقه في الظلام بحثاً عن الوجهة الصحيحة. إذ يفترض في هذه العلاقة العلاجية أن تكون مبنية على لقاء إنساني عميق بين شخصين؛ أحدهما (وهو المريض عموماً، لكن ليس دائماً) يكون أكثر اضطرابا من الآخر.
تتمثل إحدى المحاولات الشائعة والفعالة لحل مسألة العزلة الوجودية التي تظهر في العديد من هذه القصص في الامتزاج، أي تليين الحدود التي يضعها المرء أمامه، والذوبان في الآخر. وبما أن الوعي بالذات يولد القلق، يأتي فعل الاندماج ليجتثه جذريا، فيفقد المرء نفسه تاليا كنتيجة للذوبان في الـ "نحن". لهذا السبب لا يحبذ المعالجون علاج المريض العاشق، لأن العمل العلاجي يتطلب بطبيعته استجوابا للوعي الذاتي وتمحيصا للشعور بالقلق الذي سيصبح في نهاية المطاف بمنزلة المرشد والدليل الذي يقود إلى فهم ماهية الصراعات الداخلية.
لذلك ابتدأت القصص بحالة ثيلما، التي استهلكت خلال ثمانية أعوام طاقتها بالكامل في هوسها بالحب، وهو ما فرغ الحياة من واقعيتها، ومحا إمكانية الاستفادة من التجارب الجديدة، سواء كانت جيدة أم سيئة. فلم تشكل مع يالوم أي رابطة علاجية، بعد أن استلبها التعلق الحصري الشديد بالآخر من نفسها. ومن خلال قصتها يلفت يالوم الانتباه إلى ماهية التعلق الذي لا يشكل دليلا على نقاء الحب، لكونه يتغذى في هذا النمط على نفسه، فلا يعطي أي شيء ولا يهتم بالآخرين، ومن ثمَّ مقدر له أن ينهار على رأس صاحبه. فشتان بين الوقوع في الحب والوقوف في الحب الذي يمثل في الحالة الإنسانية السوية شكلاً من أشكال العطاء وأسلوباً حياتياً، وطريقة للتواصل عموماً.
يقارب يالوم الموت من خلال استعراض حالة كارلوس المصاب بسرطان نشط جدّاً، والذي استطاع أن يستفيد من العلاج بامتياز. فتجاوز هوسه الراسخ بالنساء السابق لإصابته بفترة طويلة، ونجح في كسر عزلته الاجتماعية من خلال المواظبة على حضور العلاج الجماعي. وخلال الأشهر المتبقية من حياته اختار الاستمرار في العطاء فقام بتنظيم مجموعة لمساعدة الذات خاصة بمرضى السرطان. لكن الأهم أنّه كان معطاءً تجاه ابنه وابنته. فتمثلت آخر هدية يمكن أن يقدمها هذا الأب لأطفاله في تعليمهم، عن طريق الأمثلة، كيفية مواجهة الموت برباطة جأش.
ونلاحظ من القصص أن قلق المرء من الموت طرداً مع افتقار حياته للتجارب، أو الإمكانات غير المحققة، وهو ما اختزله نيتشه بقوله "إنَّ العيش بأمان أمر خطير". فالاقتراب من الحقيقة الكامنة في الأعماق يوافق الاكتمال والنضج، ومن ثمَّ قبول مبدأ الموت والتصالُح معه، بالمقابل، يتجلّى عدم النضج برغبة عارمة في العيش.
في كتابه مسألة موت وحياة، يواجه يالوم موت زوجته التي شاركته تفاصيل حياته بأكملها مذ كانا في عمر المراهقة. فوجد نفسه وهو في الثامنة والثمانين من عمره، مطالباً بتعلم أشياء كثيرة عن الحياة، وخصوصاً كيف يعيش كشخص بالغ مستقل ومنفصل. وكان يالوم قد حقق ذاته عبر فعل أمور كثيرة في حياته، إذ أصبح طبيباً، واعتنى بعدد كبير من المرضى، ودرس عدداً كبيراً من الطلاب، وألف كتباً عديدة، وأصبح أباً لأربعة أبناء محبين، كرماء، ومبدعين، لكنه لم يتعلّم تقدير قيمة الشيء وأهميته من دون تشاركه مع زوجته، ومن ثم معاينته بمفرده. فهل كان يالوم مفتقراً نسبياً إلى النضج المقترن بالحكماء؟