الفنّ بوصفه علاجاً نفسياً واجتماعياً

منصة 2024/08/08
...

 د. حيدر علي الاسدي

يقول بابلو بيكاسو "الفن جمال ومحبة وأخلاق ورسالة وصدق"، حيث تشتبك الفنون الإبداعية بالعلوم المجاورة، ولاسيما علم النفس ونظريات التربية المتنوعة، ومنذ القدم كان العامل النفسي من أهم العوامل التي يرتكز عليها الخطاب الفني، منذ التنظيرات الأولى لأرسطو في فن الشعر ورؤيته عن مفهوم وفلسفة "التطهير" التحرر من المشاعر الضارة والمؤلمة.

العلاج بالفّن طريقة مبتكرة إبداعية راجت في الأعوام الأخيرة في المجتمعات الغربية، وبخاصة عند الذين يؤمنون برسالة الفّن بجانبها السيكولوجي والسيسولوجي. إن هذه الطريقة هي محاولة وسعي جاد لخلق توازن من النواحي الحسيّة والتعمق نحو الذات ومدركاته ومعرفة ما يجول في خواطر الإنسان عبر استخدام وسائل الفنون التعبيرية، مثل تبادل الأدوار وتجسيد الاستعارة أو الحركة أو سرد الحكايات. 

وتتنوع مسارات العلاج بالفن عبر تعدد هذه الفنون ووسائلها وأساليب تعبيرها ومنها "المسرح، الفنون التشكيليّة، الموسيقى"، ففي عام 1920 تبنى المعالج النفسي ليفي مورينو مفهوم العلاج بالدراما "السيكودراما" في محاولة لمسرحة المشاعر لمساعدة المضطربين نفسياً وتفريغ مشاعرهم وانفعالاتهم عبر تجربة أداء أدوار تمثيلية تتصل بالمواقف التي مرت بهم، أي حاول أن يخلص هؤلاء من الكبت والغضب والحزن والذكريات المؤلمة، وربما هذا يتسق مع التطهير الارسطي، ولكن بمفهوم آخر يتعلق "بالتجربة الفردية للمتضرر ذاته". 

العلاج بالدراما أو ما يصطلح عليه "السيكودراما" سواء النفسية أو التربوية شهدت مجالاً تطبيقيا للعلاج النفسي والسلوكي، وحتى التثقيفي بوصفه من أساليب العلاج المبتكرة المرتكزة على طريقة مورينو، والذي أسس مسرحا في فيينا لعلاج الأطفال عبر الدراما. أن هذا الأمر يؤكد العلاقة الوطيدة بين علم النفس والفن المسرحي في محاولة التأثير بالفرد (المتلقي) عبر التواصل الادائي واطلاق العنان للمشاعر الذاتية للخلاص من كل ما هو ضار بشكل نفسي وشعوري، وهو يتيح المجال لكل المضطربين سلوكياً من طلبة المدارس والأطفال أو ذوي الاحتياجات الخاصة لاطلاق العنان لتعبيراتهم الانفعالية غاية في التواصل الفعال مع الاخر في محاولة لتحقيق مبدأ الاندماج مجدداً. 

والعلاج بالفن بحسب (الجمعية البريطانية للمعالجة بالفن) بأنه من أشكال العلاج النفسي يستخدم وسائل الاعلام الفن كوسيلة اساسية للتواصل. وقد تمكن الباحثان ديفيد كيبر وتيموثي ريتشي من قياس مدى فعالية السايكودراما، وخاصة عبر مبدأ العفوية والتي ترسخ تجربة انثيال الجسد والحوار للفرد، وبالتالي الارتجال العفوي بما يريد أن يقول من دون أي قيود، وهو أشبه بثقافة (الاعتراف) والإقرار بالذنب للخلاص من الألم بحسب المفهوم الديني.

أما العلاج بالفن التشكيليّ عبر الرسومات والألوان والخطوط فتظهر مرجعيات هذه الطريقة بشكل علمي من خلال دراسات عالم النفسي سيجوند فرويد، الذي كشف عن بعض الخطوط الدالة على ماهية الفّن، وقدرة الفنون التشكيلية على احتضان مشاعر نفسيّة ذات صلة مباشرة بالفنان تكشف عن شخصيته النفسيّة. 

كما أطلق الفنان البريطاني أدريان هيل مصطلح العلاج بالفن عام 1942 مكتشفاً الفوائد العلاجية للرسم والتلوين في فترة نقاهته عندما كان يتعافى من مرض السل في المصحة. فقد كتب أن قيمة الفن تكمن في العلاج ووثق طريقته وأعماله في كتابه "الفن ضد المرض". 

العلاج بالفن التشكيليّ هو أحد أهم الطرق تطبيقاً في المجتمعات الاوروبية، سواء في المصحات النفسيّة أو المستشفيات، وبخاصة عند الأطفال وذوي الاحتياجات الخاصة والمرضى الذين يعانون من رهاب ما بعد الصدمة أو الضغوطات النفسية ما بعد الصدمة.  

وثمة استراتيجيات للعلاج بالفّن التشكيليّ، ومنها التعبير الحر، أي يترك للمريض أو الطفل حرية التعبير التامة والمطلقة عما يرسم ويجول في ذهنه من أفكار، فيعبر عن انفعالاته المكبوتة للتنفيس عنها لاحقا بمرحلة العلاج، إذ يسهم هذا النشاط بكسر حاجز التخويف وتخفيف القلق والقدرة على التعبير، كما يتم الاسترخاء والتخيل الموجه في العلاج بالفن التشكيليّ لكي يصل المصاب لأقصى حالات الاسترخاء جسديا وذهنيا، ومساعدة المرضى على التنظيم والترتيب من خلال نوعية العمل الفني "الكولاج" بإعطاء الطفل مجموعة أشياء أو صور والدفع به بخصوص تنظيمها وترتيبها جماليا، ناهيك عن الدفع بالطفل والمريض إلى تبني العمل الجماعي عبر رسم اللوحة الجماعيّة وزرع الثقة والتكافل والتكاتف ومحاولة معرفة الفروقات الفردية فيما بينهم من خلال ما تتركه رموزهم وبصماتهم الخاصة بهذا العمل الجماعي. 

والأهم عملية اختيار الألوان، والتي لها فاعلية سيكولوجية تدل على المشاعر التي يعيشونها، إن هذه التقنية العلاجية من الممكن أن تكون ناجعة كما حصلت في المجتمعات الغربية على أطفال التوحد ومراكز العلاج النفسي والتأهيل من المخدرات وذوي الاحتياجات الخاصة والسجناء، للتخفيف من حدة التوتر لديهم، لان تلك الأعمال تتميز بهيمنة الألوان ورمزيتها التي تنعكس على نفسيّة المتلقي "الرائي"، بل ممكن استخدام مثل تلك الأعمال في دار الايتام ودار رعاية المسنين وغيرها من الاماكن التي تحتاج إلى الدعم النفسي المعنوي الاعتباري لكي يكملوا مشوار حياتهم من دون مشاعر سلبية.  

كما اطلق العالم الفرنسي جان دوبوفيت ما يصطلح عليه "فن البروت" مركزاً جهوده على وظيفة الممارسة الفنيّة على مرضى اللجوء الذين يعانون من الجنون لأن العلاج بالفّن التشكيليّ يقوم على وصف الانفعالات النفسيّة وحتى البدنية من خلال "الخطوط" وممكن تلمس رمزية تلك الخطوط وقراءتها وإحالتها إلى "معكرات الصفو والتأثير الحياتي السلبي على هذا الشخص" وبالتالي الوصول إلى عمق المشكلة النفسيّة ومحاولة معالجتها، فما الفّن إلا تعبير عن مكامن الذات الداخلية. 

إن العلاج بالفن حقيقة علميّة لا وهم وبدع لتعزيز شأنية الفن وصناعه، ففي المجتمعات الغربية يوجد عدد من الجامعات المهتمة بالعلاج بالفن سواء كان الفّن الموسيقي أو الرقص والحركة والدراما والفنون التعبيرية المتنوعة، وهناك برامج مهمة للعلاج بالموسيقى معتمدة في تلك البلدان من جمعيات تخصصية فهناك ما يطلق عليه "التحالف الوطني لعلاجات الفنون الإبداعية" فلا يمكن استخدام العلاج بالفّن، إلا من خلال المرخصين بهذا الخصوص والقادرين على عملية تقديم الفن بصورة علاجية إلى الافراد المصابين والأطفال.

أما العلاج بالموسيقى فهو من الطرق التي تتسم بطابعها الحسي المباشر مع المتلقي فهي ممارسة شاملة لكل الاحتياجات العاطفية والنفسيّة وحتى التواصلية والحسية والحركية والسلوكية التي تتصل أحيانا بعمق الذات والروح، وكما يقال فالموسيقى غذاء الروح، فهي لديها قدرة على تخفيف المشاعر الغاضبة المتشنجة وتغسل الروح من كل مادياتها الحياتية وتأخذ الانسان إلى عوالم الرقة والعاطفة نظراً لدورها العاطفي الشفاف.  والعلاج بالموسيقى بحسب جمعية العلاج بالموسيقى الأميركية AMTA فهو يقدم وسيلة للصّحة العقلية عبر العملية الإبداعية وتذوق الفنون، كما يمتلك الموسيقي البريطاني نايغل أسبورن سبق إبداعي في العلاج بالموسيقى، فهو يرى أنه ما من تدخُّل لتجاوز الصدمة يترك أثره على الجهاز العصبي والصحة النفسية أكثر من الموسيقى. وقد عمل اسبورن في مناطق النزاعات وعالج العديد من اللاجئين عبر الموسيقى، فهو يسعى أن يستخدم الأثر في الفكر لتجاوز التحديات النفسيّة وإعادة توازن الخارجين من حروب دامية. فهذا المتخصص يرى أن الموسيقى تساعد على ضبط الأنظمة الدماغيّة المتأثرة بتبعات الصدمات التي تسببها تلك الحروب مما يساعد الأطفال على كسب الثقة وتعزيز مهاراتهم السلوكية للتواصل بسهولة مع الآخرين. 

إن استخدام الفن في رسم مسارات حياة الأفراد من ضمن آليات واستراتيجيات عملية بناءة يسهم في توعية الإنسان فكرياً وتغذيه روحياً، ومن أهم رسائل الفنون المختلفة ويمكن تطبيقها بشيء من الاهتمام والتركيز واللجوء إلى التخصص في رياض الأطفال والمدارس، وهي مهمة حيوية تكمن على عاتق المؤسسات الرسمية اولاً، والطبقة الثقافية ثانياً والمهتمين بالفنون ووظائفها على المجتمع بطريقة أكثر تركيز لعكس الصورة الإيجابية للفن، لا التركيز على الابتذال الذي تقدمه بعض الفنون في الآونة 

الأخيرة.