لا يعنينا هنا المنظور الديني أو المذهبي أو الدستوري في ما يخصُّ زواجَ القاصرات بشكلٍ خاصٍ، والزواجَ المبكرَ بشكلٍ عامٍ، بل يعنينا ما يقوله علم النفس والطب النفسي فهو اختصاصنا وينبغي أن نؤدي واجبنا في مسألة خطيرة تخصُّ جيلَ الشباب والأسرة والمجتمع والدولة أيضاً. نبتدئ القول بحقيقة أن استقرار المجتمعات وأمنها ورقيها لا يتحقق إلا بالاعتناء بالأسرة، وتوفير الظروف الملائمة لضمان قيامها بأدوارها في بناء جيلٍ قادرٍ على الإسهام بشكلٍ إيجابيٍ في التنمية لضمان العيش في مجتمعٍ آمنٍ يستثمر رأسماله البشري أسمى استثمار.
ولا شك أنَّ الأسرة المتوازنة المبنيَّة على أساسٍ من الترابط والألفة والاحترام هي مكسبٌ لا يتحقق إلا إذا ارتكزت هذه الأسرة على زواجٍ سليمِ البناء، والزواج بهذا المعنى لا يتحقق إلا بكمال الأهليَّة والنضج البدني والعقلي، والقدرة على تحمل مخاطر المسؤوليَّة والأعباء المترتبة عليها.
ماذا يقول العلم؟
تؤكد الدراسات الطبيَّة والسايكولوجيَّة أنَّ لزواج القاصر أضراراً فادحة، ليس فقط لعدم اكتمال نضجها البيولوجي والفكري، بل ولأنه غالباً ما ينتهي بالطلاق؛ لعدم إدراك القاصر لمسؤوليَّة الزواج. والأخطر سايكولوجياً أنَّ الفتاة ترتعبُ من حصول الدورة الشهريَّة لديها ورؤيتها للدم، فكيف لطفلة بعمر التاسعة تفضٌّ بكارتها بعملٍ لا تجد له تفسيراً سوى أنَّه عدوانٌ عليها يترتبُ عليه كرهها للرجل والزواج والعمليَّة الجنسيَّة التي تتحول لديها من متعة الى قسوة بشعة، ستفهمه في ما بعد بأنَّه كان اغتصاباً واستعباداً.
والمؤسف أنَّ الكثير من العراقيين لا يعلمون أنَّ معظم جرائم الشرف التي أشارت التقارير الى تزايدٍ حادٍ بلغ 700 حالة في السنة!، كانت بين قاصرات أرغمن على الزواج أو هربن من بيوت أهلهنَّ، فضلاً عن أنَّ زواج القاصرات يعدُّ جريمة في نظر القانون الدولي الخاص بحماية الأطفال ومعاهدة حقوق الأطفال التي تعدُّ زواج القاصر حرماناً لها من حقّ التمتع بمرحلة الطفولة وحقّ التعليم، والعراق من الدول الموقعة عليها. والمؤسف أنَّ سياسيين وبرلمانيين وحتى مثقفين لم يدركوا أنَّ تزويج البنات بعمر مرحلة الطفولة يعني تحويلهنَّ الى ربات بيوت جاهلات وحرمان المجتمع والوطن من مصادر طاقة تنمويَّة اقتصاديَّة واجتماعيَّة وثقافيَّة.
دراسات عربيَّة ميدانيَّة
من بين أهم الدراسات العربيَّة دراسة مغربيَّة رصينة بعنوان (دراسة تشخيصيَّة حول زواج القاصر) توصلت الى أنَّ الزواج المبكر يؤدي الى زيادة التوتر والقلق لدي الفتيات القاصرات والشعور بالعزلة والاكتئاب، ويزيد من خطر الإصابة باضطرابات الصحة العقليَّة. وأنَّ (الزواج والحمل المبكر والولادة المبكرة تؤدي الى مخاطر صحيَّة جمَّة على القاصر نفسها، وعلى أولادها، إذ يؤدي الى الرفع من نسبة احتمال إصابة المولود بإعاقة، وأنَّ ارتفاع نسبة وفاة المواليد الجدد يرفعُ بشكلٍ كبيرٍ من مخاطر الإجهاض).
وأوصت هذه الدراسة الرصينة التي أنجزها فريقٌ من الباحثين بوجوب توافر طابع (الرضائيَّة) في الزواج، وتسجيل عقود الزواج قضائياً، والالتزام بقرارات الأمم المتحدة التي حددت سن الزواج بألا يقلَّ عن 18 سنة (الجزائر حددته بـ 19 سنة).
ما المطلوب..عراقياً؟
ننوه الى أنَّ زواج القاصرات صار يحظى باهتمامٍ عالميٍ لكونه يمثل انتهاكاً صارخاً لحقوق الإنسان، بانتهاك حقَّ الفتاة في الحريَّة والتعليم والصحة والحياة الكريمة، وعليه فقد عملت المنظمات الحقوقيَّة الدوليَّة على (توعية المجتمع والتشريعات القانونيَّة لحماية حقوق الفتيات القاصرات وتوفير الدعم اللازم لهنَّ للتخلص من هذا الظلم والإساءة التي يتعرضن لها)، وفقاً لوكالات الأنباء.
ولدى متابعتنا الدعوة الى (تعديل قانون الأحوال الشخصيَّة) وجدنا مواقف متصلبة وتعليقاتٍ لا تليق بين الضد وضده النوعي ولا تخدم الأسرة العراقيَّة ولا المجتمع ولا الدولة. وعليه فإنَّنا ندعو الى التهدئة وعقد ندوة تضمُّ ممثلين مثقفين من الفرقاء نقترحُ أنْ تتبناها (الصباح) للوصول الى صيغة تليقُ بالعراق وأهله.