الكـــــتـاب بوصــــفه ســــلطـة

ثقافة 2024/08/14
...

  د. عبد الجبار الرفاعي

يستمد المكتشف سلطته من اكتشافه، ويستمد المخترع سلطته من اختراعه، ويستمد الفيلسوف سلطته من كتابه الأساسي ومجموعة كتبه، ويستمد العالم سلطته من كتبه في حقل تخصصه، ‏ويستمد الروائي سلطته من أشهر رواياته ومجموعة أعماله، ويستمد الشاعر سلطته من شعره، ويستمد الرسام سلطته من لوحاته الشهيرة ومجموعة أعماله، ‏ويستمد المؤلف الموسيقي سلطته من مؤلفاته الموسيقية، وهكذا يستمد كل كاتب مبدع سلطته من أعماله.

الكتابة سلطة الكاتب، وسلطة يوظفها السياسي وأحيانًا يحتكرها، وسلطة يستعملها رجل الدين، ويمكن أن يستعملها كلُّ إنسان. ذلك ما يدعو بعض الناس ممن يفتقرون لأدنى مؤهلات الكاتب للإسراف في كتابة المقالات والكتب الهزيلة. ‏احتراف الكتابة غير متاح لكلِّ إنسان، تحتاج هذه الصنعة إلى تكوين معرفي وثقافي وأدبي ثري يتواصل سنوات طويلة، وتمارين شاقة على الكتابة، ‏وذكاء يؤهل الإنسان أن يكون كاتبًا، وإلى شخصيّة مثابرة صبور، قادرة على تحمل الوحدة، وحريصة على استثمار الوقت، وعدم تضييعه في علاقات طفيليّة وفوضوية. 

تبعًا لسلطة الكتابة يُستعمل الكتاب أداةَ سلطة، وإن لم يكن مَن يمتلك الكتاب كاتبًا. تكوين مكتبة لا يحتاج إلى كلّ ذلك، يمكن حتى للإنسان الأمي أن يشتري الكتب من المكتبات كما يشتري أية سلعة أخرى من السوق، إن كان يمتلك الأموال اللازمة لذلك. المكتبة تستمدّ سلطتها من الكتاب، وهذا ما يدعو رجال السلطة وبعض الوجهاء لتكوين مكتبات، تكون أحيانًا ضخمة، بل يلجأ رجال السلطة لإطلاق أسمائهم وأسماء عوائلهم على مكتبات الدولة الوطنية للاستحواذ على رأس المال الثقافي بوصفه رصيدًا للسلطة السياسيّة.

جرى توظيف الكتابة بوصفها أداة أساسية للسلطة، وكونها أداةً لتمكين السلطات السياسية والعسكرية والدينية من الحكم. السلطة تكتب مدونتَها على وفق طريقتها في التسلط، وما ترسمه من حدود للهيمنة على حياة ومصائر المحكومين، ومن خلال هذه المدونة تستمدّ شرعيتَها وانصياع الشعب لها، وتنتسب هذه الشرعيةُ في الحكومات الثيوقراطية عبر التاريخ دائمًا إلى السماء. فئةُ الكتّاب تكتسب مكانةً إضافية بعملها في الكتابة تتفوق بها على غيرها من فئات المجتمع. تجاوزت الكتابة ُ كونَها حرفةً فنية إلى كونها مؤسسة  تضفي قوة وهالة على الكاتب، وتمنحه سلطة ممارستها. يرى الأنثروبولوجي الشهير كلود ليفي شتراوس في رحلته إلى قبائل النامبيكوارا، بأن الكتابة (ظهرت، لكن ليس كما قد يتبادر إلى الذهن، نتيجة لتعلمٍ جاد، فقد تمت استعارة رمزها، بينما ظلت حقيقتها غريبة، لغاية اجتماعية أكثر منها فكرية. لم يكن المقصود هو المعرفة والحفظ والفهم، بل زيادة الهيبة والسلطة، لفردٍ، أو وظيفة على حساب الغير)(1)، ويضيف أيضاً: (وبهذا اكتشف أحد أهالي العصر الحجري، أن وسيلة الفهم العظمى، حتى إذا لم تُفهم، يمكن لها أن تستخدم لغايات اخرى. وعلى كل فطوال آلاف السنين، وحتى الآن (2) في جزء كبير من العالم، وجِدتْ الكتابة كمؤسسة في مجتمعات لا يستطيع أفرادها في أغلبيتهم ممارستها)(3).  

 من نماذج المكتبات المؤسسة لغرض خفي بتوظيف الكتاب بوصفه سلطة، ما حدّثني به صديق، خبير بالكتاب والمؤلف، يمتلك مكتبة لبيع الكتب، يقول: جاءني أحد الزبائن المولعين بشراء الكتب، فأخبرني بأنه بنى بيتًا كبيرًا، وخصّص أكبر صالاته لمكتبة تضمّ الكتب المتنوعة، وطلب من نجار ماهر أن يصنع له مكتبة كبيرة من أفخر أنواع الخشب، تتسع لآلاف الكتب المجلدة تجليدًا فنيًا مذهبًا، وقاس مساحات الرفوف بشكل دقيق، وطلب ترتيب الكتب تبعا لعدد مجلداتها ومساحة امتدادها على الرفوف، وبريق زخرفة التجليد وتلوينه، وجمال خطوط عنواناتها ومؤلفيها. كان يشتري استنادا إلى هذه المواصفات، والفضاء الذي تشغله على الأرفف، بغضّ النظر عن محتويات الكتب والمؤلفين. بعد الانتهاء من وضع الكتب على الأرفف على وفق هذا التنظيم، كان يشرع في ملء المساحات الفارغة، فطلب مني شراء كتاب تتعدّد مجلداته لتبلغ تغطية رف بطول متر ونصف، وكتاب آخر بفضاء متر واحد، وكتاب ثالث بفضاء ربع متر، وهكذا. يشترط نوع التجليد بعناية، بتذهيبات زاهية وخطوط جميلة على غلاف المجلد، يعلن عن استعداده لشراء الكتب بأيّ ثمن. اخترت له عدة مصنفات في التفسير والحديث وتراجم الرجال، تملأ هذا الفراغ وتبدو متناغمة في المكتبة مع إيقاع المجلدات الأخرى من حيث الديكور، ففرح ودفع مبلغًا سخيًا. 

 أخبرني صاحب مكتبة آخر عن إنسان يدمن على زيارة مكتبته، ويحرص على انتقاء الكتب المتعدّدة مجلداتها، فتوفرت لدي طبعة محقّقة فاخرة من "معجم البلدان" لياقوت الحموي، وعرضت الكتاب عليه في أول زيارة له للمكتبة، سألني بعد قراءة عنوان الكتاب واسم المؤلف والمحقق وبيانات النشر، هل هذا الكتاب في الفقه الشافعي؟ قلت له: عنوان الكتاب "معجم البلدان" يكفل بيان مضمونه، قال لم أسمع بهذا الكتاب، ولا هذا الاسم للمؤلف. كان الرجل لطيفًا فأخبرني: أنه يجهل كلّ شيء عن الكتب، غير أنه كان يرى هيبة المكتبة والكتب في ديوانيات بعض أصحابه، فقرر أن ينشئ مكتبة ويبتاع من الكتب ما هو الأجمل ديكورًا. وأضاف لا يهمني مضمون الكتاب وعنوانه، لا تفكر كثيرًا بثمنه، أستطيع الدفع مهما كانت قيمة الكتاب، المهم لدي شكل الكتاب ولونه وتذهيبه، وجمال كتابة عنوانه واسم مؤلفه. 

 قال صاحب مكتبة في مدينة تشتهر بالمكتبات وأسواق بيع الكتب، زبائن مكتبتي من مختلف الأصناف، القراء ممن أعرفهم يزورون المكتبة باستمرار، يجلسون في المكتبة ويسألون عن جديد الكتب، لحظة أقدّم لهم كتابًا لا يعرفونه، لا يبادرون لشرائه، قبل تفحص مضمون الكتاب وقراءة محتوياته ومقدمته والنظر في موضوعاته بتريث. غالبًا لا يمتلكون المبالغ اللازمة لشراء الكتب، يدفعون بعض المبلغ عندما يشترون مجموعة كتب جديدة، ريثما يتمكنون من تأمين ما بقي من المبلغ بداية الشهر. الذين يستعملون الكتب للوجاهة والسلطة ولا يقرأونها، لا يشغلهم مضمون الكتاب، ولا يهمهم موضوعه، يفاجؤوني بشراء أي كتاب يعجبهم شكله، ويدفعون بسخاء. تسويق الكتب لهؤلاء بالقدر الذي يوفر لي أرباحًا جيدة، يؤلمني المصير الذي ينتهي إليه هذه الكتاب، ليلبث مسجونًا في منفى بعيدًا عن القراء. أفكر كثيرًا بألم مؤلف الكتاب لو علم بمصيره، الكاتب يسعده تداول كتابه وقراءته، وإعراب القراء النابهين عن تثمينهم لمنجزه. يشعر المؤلف بالحسرة حينما يعلم أن مؤلفاته تستعمل للزينة، كما تستعمل المزهريات وغيرها من الأشياء الجميلة، وتلبث كتبه كغيرها في هذه المكتبة وأمثالها مقيمة على الأرفف لا ينظر فيها قارئ خبير، وكأنها مختطفة مكرهة على عدم أداء الوظيفة الموكلة لها. 

-----

(1)شتراوس، كلود ليفي، مداريات حزينة، ترجمة: محمد صبح، تقديم: د. فيصل دراج، دار كنعان - دمشق، ط1: 2003/2000.

(2)من الجدير بالذكر أن كتاب ليفي شتراوس: مدارات حزينة، ظهر عام 1955، وهو يتحدث عن رحلاته ما بين عام 1934-1939.

(3)المصدر السابق.