ماري جليل: هاجس الموت محرّض على الكتابة
صدام الزيدي
في بداية تسعينيات القرن المنصرم، هاجرت الشاعرة اللبنانية ماري جليل إلى كندا، لمتابعة دراستها الجامعية في العلوم الاجتماعية والفلسفة في جامعة كيبيك- مونتريال، وقبل ذلك حصلت على بكالوريوس اللغة العربية وآدابها في الجامعة اللبنانية ببيروت، ودرست أيضا في معهد الفنون الجميلة.
خلال دراستها في الجامعة الكندية، شاركت في العديد من الأبحاث الأكاديمية عن التبادل الثقافي بين الغرب والشرق، والإثنيات وانخراطها في المجتمع الكندي، كما قدمت دروسا في اللغة الفرنسية للوافدين الجدد ضمن برنامج تعاقدي مع الحكومة الكندية.
مُنِحت جليل عضوية اتحاد الكتاب الكنديين، ولها تجربة مهمة في مجال الصحافة والإعلام، ونشرت حزمة من القصائد والمقالات عن الشعر والحركة الثقافية للجاليات العربية في كندا، ونظمت وشاركت في ندوات ونشاطات ثقافية ومهرجانات أدبية وفنية في عدد من الولايات الكندية. أصدرت جليل، مجموعتها الشعريّة الأولى متأخرة كثيرًا حاملة عنوان "ملاك على هيئة رصاصة 2018"، لتتبعها مجموعة "الموت يدخن أيضًا 2024".
* كَيفَ ترين قصيدة النثر العربية؟
- في عصر منصات التواصل الاجتماعي، شهدت قصيدة النثر العربية انتشارًا واسعًا، حيث وفرت هذه المنصات مساحة مهمة لنشر الشّعر بجميع أشكاله، بما في ذلك قصيدة النثر. إن سهولة النشر والوصول المباشر جعلت من هذه القصيدة متاحة لجمهور عريض، ولكن هذه السهولة لم تخلُ من بعض التحديات.
قصيدة النثر، التي كانت في بداياتها حقلًا تجريبيًا وتجريديًا، ابتداءً من بودلير وسوزان برنار إلى شعراء الحداثة العرب مثل يوسف الخال وأدونيس وأنسي الحاج، كانت تبحث عن طرق جديدة للتعبير وتقديم الجمالية المختلفة في الكتابة. هؤلاء الشعراء أسسوا قواعد وأسسًا لقصيدة النثر، مما جعلها تبرز كنوع شعري يتسم بالحرية والتجريد.
لكن في ظل الانتشار الواسع على منصات التواصل، أصبح من السهل نشر نصوص يعتقد البعض أنها قصيدة نثر لمجرد أنها تتبع شكلاً حرًا. هذا الاستسهال أدى إلى ظهور نصوص تُقدم كقصائد نثر بينما تفتقر إلى الوحدة والترابط، وتغيب عنها الموسيقى الداخلية والتكثيف الشعريّ. كثير من هذه النصوص تخلط بين السرد والشعر، وتفتقر إلى البناء الفني والفكري الذي يميز قصيدة النثر الحقيقية.
التجارب الشعريّة الجديدة التي نراها على هذه المنصات تتفاوت بشدة. بعض الشعراء الشباب ينجحون في استكشاف الجماليات والتجريد الذي تقدمه قصيدة النثر، بينما يضلّ آخرون الطريق، فتظهر نصوصهم كمجموعة من الصور والتعبيرات غير المترابطة، تتسم بالحشو والثرثرة بدلًا من التكثيف والإيجاز.
الجانب السلبي من هذه السهولة في النشر يكمن في أن منصات التواصل قد تسهم في انتشار أدب يعتبره البعض "وجبات سريعة" أو "فاست فود" أدبي، مما يؤدي إلى خلط الأعمال الأدبية الجيدة مع أعمال دون المستوى. تتسبب هذه الفوضى في تآكل معايير الجودة الأدبية، مما يجعل من الصعب على القارئ المميز التمييز بين النصوص ذات القيمة الفنية الحقيقية وتلك التي تفتقر إليها. ورغم التحديات التي تواجه قصيدة النثر في عصر الرقمنة، تظل هنالك فرصة كبيرة لتجديد هذا النوع الشعري، وذلك من خلال الالتزام بالمعايير الفنية والتعبيرية التي وضعها الشعراء الرواد، مع استثمار وسائل النشر الحديثة لعرض الأعمال المميزة التي تقدم إضافة حقيقية للأدب.
* كيف يبدو تواصلك مع المشهد الشعري اللبناني والعربي عمومًا، وما الذي وفرته لك منصات التواصل الاجتماعي في هذا الشأن؟
- في البدء لا بد من الإشارة إلى أن مغادرتي لبنان منذ فترة طويلة، وتحديدًا في مرحلة مبكرة من حياتي، قد تسببت في انقطاع تواصلي المباشر مع المشهد الثقافي العربي. قضيت سبع سنوات في كندا، مشغولة بالدراسة والبحث في الفلسفة وعلم الاجتماع والميتولوجيا، مما جعلني في عزلة تامة عن العالم الخارجي، بما في ذلك المشهد الثقافي العربي.
خلال تلك الفترة، كنت غارقة في قراءات مكثفة وكتابة قصائد مستوحاة من الكتب الفلسفيّة التي قرأتها. لم تتح لي الفرصة لأكون جزءًا من الوسط الثقافي اللبناني أو العربي بشكل فعال. رغم أنني عملت فترة قصيرة في الوكالة الوطنية وفي جريدة "الديار"، إلا أن تلك التجارب لم تكن كافية لتوطيد ارتباطي بالمشهد الثقافي. بعض الصداقات التي أنشأتها استمرت، بينما انتهت علاقات أخرى بسبب بعد المسافات والغربة.
المشهد الثقافي العربي في لبنان وعمومًا كان في حالة نشاط نسبي خلال فترة غيابي، لكنه تغير بشكل ملحوظ مع مرور الوقت. عندما أعدت الاتصال بالعالم العربي بدايةً مع أحداث الربيع العربي، وجدت نفسي على اطلاع من خلال منصات التواصل الاجتماعي. ولكن، المشهد اليوم، بما في ذلك المشهد الثقافي، يعكس أوجاع بلداننا التي تواجه التحديات السياسية والاجتماعية، حيث تسود المحسوبيات والعلاقات والشللية في اتخاذ القرارات الثقافية.
على الرغم من هذه الصورة القاتمة، فإن منصات التواصل الاجتماعي، مثل فيسبوك وتويتر وإنستغرام، قد وفرت لنا ككتاب وشعراء منصة مهمة للنشر والتفاعل. هذه المنصات سمحت لنا بنشر أعمالنا وتبادل الأفكار والتجارب الثقافية مع جمهور عالمي، وخلقت لنا فرصًا للوصول إلى قراء من مختلف الجنسيات والثقافات. كما وفرت لي فرصة لتقديم شعري وكتابتي للجمهور العربي والعالمي، مما قرب المسافات وقلل من شعور الغربة.
ومع ذلك، لا يمكن تجاهل الجانب السلبي لهذه المنصات. فهي لا تقتصر فقط على نشر الأعمال الجيدة، بل تشمل أيضًا نشر المغالطات والرداءة، مما يؤدي إلى تلاشي معايير الجودة الأدبية. يمكن أن تسهم هذه المنصات في توجيه الفكر العام نحو قنوات معينة، وقد تسهم في نشر ثقافة التصفيق للأعمال الضعيفة وتجاهل الإبداع الحقيقي.
بالمجمل، رغم التحديات والسلبيات، تبقى منصات التواصل الاجتماعي أداة قوية للمشاركة الأدبية والثقافية، لكنها تتطلب وعيًا وتقييمًا مستمرًا لضمان تحقيق الفائدة القصوى منها دون التنازل عن جودة العمل الأدبي والشعري.
* لنعد إلى البدايات: ما الذي تذكرينه من أيام الطلوع الأولى في لبنان والدهشة الأولى كتابة وقراءة ؟
- لنعد إلى بداية الدهشة الأولى، حيث كانت الكلمات تنبثق من أعماق قلبي كعاصفة ملهمة تفيض بالألوان والحياة. كنت في الثالثة عشرة من عمري، في زمن كان يبدو فيه أنني أعيش في عوالم مغايرة لجيل مراهقتي. كنت أقرأ نيتشه وماركس، محاولةً استكشاف الحكمة الكامنة في تلك النصوص العميقة. كنت أتابع الأخبار مع أخي الكبير أيام الأحد، نحلل المشهد السياسي والثقافي. كنت متمردة على التقاليد، ودماء الثورة تسري في عروقي، أعيش في عالم موسيقي ملأته أغاني بريل و"الغياب" و"ليو فيري" والشيخ إمام، حيث كان الشعر هو ملاذي الذي احتوى هواجسي وأفكاري وأحلامي.
أستاذ اللغة العربية كان يرى فيّ شيئًا يميزني عن بنات جيلي، وكانت الشاعرة باسمة بطولي، ناظرة مدرستي، تأخذني إلى مكتبها في أوقات الفراغ، تقرأ لي قصائدها، وتطلب رأيي. كنت أعبّر عن رأيي بكل صراحة، وكانت تقول لي: "أنت شاعرة يا ابنتي." لكنني كنت غارقة في عالم السياسة، ولم أكن أعطِ ذلك أهمية كبيرة في حينه.
حتى عندما كنت أكتب في مواضيع مختلفة، كان الطابع الشّعري يهيمن على نصوصي، حتى في الفلسفة التي كنت أدرسها في المدرسة. لكن موت والدي كان الصدمة الأولى التي فتحت أمامي أبواب الحياة والموت بوضوح. كان الموت يتربص كأنه يقول: "من التالي؟" وكنت أرتعش في حضوره. كتبت أول نص لي في تلك الفترة، الذي تجسد في كتابي الأول "ملاك على هيئة رصاصة"، حيث ينتهي النص بعبارة: "حين توفي أبي، تأكدت أن الله لا يحب الضحك."
وفاة والدي كانت نقطة تحول عميقة في إيماني ووجودي، مما أثار تساؤلات وجودية حول الشك واليقين. بدأت في تناول الشعر والكتابة بجدية، وكتبت العديد من القصائد، بعضها باللغة الفرنسية، حول تجربة الموت والوجود. كان لدي شغف بالعلوم، مثل الفيزياء وعلم الفضاء، وكان هذا الشغف يدفعني للبحث المستمر عن الحقيقة، فتعمقت في القراءة والبحث، متوغلة في نفق المعرفة البيضاء، ساعية وراء الضوء الخالص.