ميادة سفر
تغيب المرأة بما هي كائن بشري لديه ما لديه من فكر وثقافة عن كثير من الأدبيات والأحاديث، ليحضر جسدها بما هو حيز للاشتهاء والرغبة وميداناً لفرض أمراض المجتمع الذكورية الكثيرة، ومنذ أن كتبت سيمون دو بوفوار كتابها الأشهر "الجنس الآخر" التي أعلنت فيه أنّ "المرأة لا تولد امرأة بل تصبح كذلك"، بمعنى أنّ المجتمع هو الذي يشكلها بما يفرضه عليها. كتب الكثير وما زال يكتب عن المرأة من دعوات للتحرر وأخرى تطالب بمزيد من الكبت والتضييق، وفي كل المجتمعات تقريباً كانت المرأة وجسدها ملكاً لأحد ذكور "القبيلة" يتحكم به وفقاً لأهوائه ورغباته ومصالحه، حين كانت توأد لأنها فأل شر، إلى الوقت الذي أصبحت فيه تورث كأي متاع في البيت، إلى حد إباحة القتل بدواع عدة، كالشرف الذي ترفرف راياته ملطخة بدمها، إلى أن وصلنا اليوم إلى الوقت الذي تحولت فيه المرأة وجسدها سلعة تعرض أمام الجمهور لجني الأرباح.
في "جسدها وحفلات أخرى" الكتاب الصادر حديثاً عن دار سرد، ودار ممدوح عدوان في سوريا وبترجمة نقية وممتعة وسلسلة من المترجمة السورية ضحوك رقية، هنا يحضر جسد المرأة في كل القصص التي تضمنها الكتاب، بما فيه من حزن ومآسٍ واضطهاد وقلق وخوف، جسد امرأة قدمتها الكاتبة كما هي وكما تريد أن تكون، حضر الجسد الأنثوي في كل تفاصيله ورغباته، بدءاً من العنوان الذي كان واضحاً معلناً عن مكنوناته دون خجل أو مواربة، دون تورية أو حجب، عنوان لم تشأ الكاتبة أن تلقي عليه غطاء يستر ما قد يراها البعض عيوباً، أو يخفي تضاريس يمكنها أن تثير غريزة أحدهم، فجاء عنواناً صريحاً لا بس فيه ولا غموض، لكتاب سيحكي عن النساء وأجسادهن التي تحضر في كل القصص فيما تغيب الأسماء عن بعضها، فما أهمية الاسم أو الشخصية إذا كان الجسد سيتكفل بكل شيء؟!، ما همَّ إن أطلقنا تسميات على بطلات القصة، إذا كنا سنجد بطلات كثيرات حولنا تحاكي قصصهن ما سردته الكاتبة في هذا الكتاب؟
تضمن الكتاب حكايات تحتفل بجسد المرأة وتدور حوله، عن تفاصيله وتلافيفه، شغفه وشوقه للانعتاق والتحرر، عن تلك الممارسات التي تدور حوله وعليه، والقصص التي نسجت لتخلده أو تنبذه، لترضيه أو ترضي الآخر الذكر أو العائلة أو المجتمع، قدمت من خلاله بعضاً من كثير من المشكلات والمشكلات التي تعاني منها المرأة والتي تتشابه في ما بينها في كل المجتمعات وإن بنسب متفاوتة، صادماً حيناً ومتعاطفاً حيناً آخر، يغوص في أمور وحيثيات وتفاصيل وقناعات وممارسات كنا وما زال البعض منا يخجل منها ويرفضها وينظر إليها نظرة المرتاب القلق المتربص، قصص لم نتعد قراءتها في أماكن أخرى ولا حتى سماعها وتقبلها. ثماني قصص مختلفة عن نساء مختلفات، لكنها تصب جميعها في مكان واحد تدور فيه إنه الجسد، في "غرزة الزوج" تستفيض الكاتبة في تلك العلاقة الحميمية بين الزوجين والرغبة التي لا تكبتها المرأة، متحررة من قيود كالطوق الذي لفّ عنقها وظل لغزاً محيراً لشريكها متحيناً اللحظة لفكه، سرها الذي أراد كشفه دون أن يعلم بالنتائج التي ستترتب عليه، فلا يجوز أو لا يرغب رجل أن يبقى في جسد شريكته فضاء لا يغوص فيه أو لا يكتشفه، لم يشأ أن تحتفظ بأسرار عنه وفي تلك اللحظة "ينقلب رأسي المتدلي إلى الوراء بعيداً عن عنقي، ويتدحرج خارج السرير، وأشعر بالوحدة أكثر من أي وقت مضى"، نهاية ملتبسة تترك القارئ وحيداً ليقرأ الحدث، كما يراه دون أن تفصح له عن سر ذلك الطوق الذي طوّق عنق بطلتها طيلة حياتها.
عن هوس التنحيف والرشاقة تحكي "ثماني لقمات" قصة إحدى النساء الراغبات بالتحرر من عقد الجسد الممتلئ، الباحثة عن نظرات الإعجاب ممن حولها، فيها تحاكي الكاتبة رغبات الكثيرات بامتلاك جسد رشيق وقوام ممشوق ملتفاً للأنظار، وإن كان على حساب التخلي عن كثير من الأشياء التي يحببنها كالأكل "تعبت من وقوفي أمام حلة الطعام الفارغة، سئمت من النسوة النحيلات في الكنيسة"، أرادت بطلتها أن تتبع طريقة والدتها في التنحيف بتناول ثماني لقمات، لكنها فشلت وما كان أمامها سوى الخضوع لتلك العملية التي ستمكنها من تحقيق حلمها ورغبتها "لم أتمكن من جعل اللقمات الثماني تناسب جسدي، ولذا سأجعل جسدي يناسب اللقمات الثماني".
تجاوزت "كارمن ماريا ماتشادو" المولودة في ولاية آيوا الأميركية، كثيراً من المحظورات، التي سيجدها القارئ في هذه المجموعة من الحكايات، بقسوة وإثارة وصراحة قلّ نظيرها، إنها حكايات المرأة وجسدها الذي وضع دائماً وما زال يوضع تحت المجهر، مجهر الأسرة والمجتمع والدولة والقوانين، ومرات كثيرة فرضت هي سلطتها عليه بما تشربته من محيطها فاستعذبت العنف وتلذذت بالإذلال، حكايات تفشي أسراراً لم نعتدها وقصص ما زلنا نغض السمع عنها، ونساء نشيح أنظارنا عنهن ونتمتم في
سرنا شجباً وإدانة، فقط لأنهن أردن أن يعشن كما شاء لهن جسدهن العيش.