المتسولات ومطالب الحركات النسويَّة
جاكلين سلام/كندا
الحروب مكلفة وآثارها مريعة على جميع قطاعات المجتمع، وتقابلها كذلك السرقات الكبيرة التي يرتكبها بعض من هم في دوائر السلطات العربية، وليس تعميماً. وهذا واضح حين يراجع القارئ أرقام الحسابات البنكية التي في أوروبا لأولاد وأعواد وحماة بعض الأنظمة، سواء التي سقطت أو تلك التي تحكم اليوم.
الموجات النسوية التي ظهرت في أوروبا والغرب عموماً كانت مطالبها الأولى تحقيق العدالة والكرامة للمرأة أسوة بالرجل. أي توفير فرص التعليم والتوعية للمرأة كي تصبح قادرة على إعالة نفسها بكرامة وباستقلالية عن الرجل، بدل أن تبقى ربة بيت ومنجبة للأطفال فقط. ففي حالات الحرب تفقد النساء معيلهن أحياناً ويصبحن في مهب الشقاء الذي يدفع ببعضهن إلى الدعارة أو التسول أو الاكتئاب المزمن الذي يؤثر سلباً في حياة الأطفال والعائلة والمجتمع. وذلك ربما نجد الكثيرين مممن يقفون خلف إحباط مشاريع استقلالية المرأة كي يتسنى لهم قتلها روحاً وعقلاً وكفاءة.
التسول في كندا مسموح للجميع ولكن...
هل تدفع الحروب نساء الطبقة الفقيرة في كندا إلى التسول، أم أن التسول هنا له علاقة ببنية اجتماعية ويحتاج إلى إشكالات وممارسات معينة كالإدمان على المخدرات والكحول والقمار والاكتئاب الذي يقود إلى حافة الجنون واللامسؤولية لدى البعض في الشارع الكندي؟! تورنتو في هذا العقد كمدينة صناعية تستقطب اللاجئين من العالم، والغلاء بات فاحشاً ونرى آثار هذا وانعكاساته على مرافق الحياة العامة والشارع.
مسألة عمل النساء، تسول النساء، وحقوق النساء تأخذ مساحة من انتباهي ومتابعتي لما يحدث في الشارع الكندي والعربي والعالم. يبدو أن التسول في كندا حق مشروع وخيار له بالتأكيد شروط معينة، منها ألا تكون وقحاً مع المارة وأنت تطلب النقود في تقاطع الشوارع، أو في رقعة في محطة القطار أو أي زاوية في المدينة التي تعيش فيها. وسمعت أن هناك منعاً للتسول في بعض الدول العربية.
لم يعد التسول في مدينة تورنتو الكندية ومدن أخرى مقتصراً على المدمنين على المخدرات والمشردين الذين بلا مأوى من الرجال والنساء، بل صار ملحوظاً حضور نساء شرقيات يلبسن الحجاب والجلباب. نساء مسلمات يمارسن التسول في تورنتو والضواحي. المتسولون عموماً، ازدادت أعدادهم بعد موجة الحروب في الشرق العربي.
مشاهدات في شوارع تورنتو
كنتُ أعمل في منطقة ( ايست يورك/تورنتو) حيث يجتمع عدد كبير من المهاجرين المسلمين من أفغانستان وباكستان والشرق. عند تقاطع شارعين، لفت انتباهي وجود امرأة لا تتجاوز الثلاثين من العمر، تلبس الحجاب وتقف على التقاطع وقت الظهيرة يوم الجمعة وتتسول. كان وقت الصلاة والكثير من المسلمين يلبسون “الجلابية البيضاء” وقبعة على الرأس في طريقهم إلى الجامع القريب. كانت تخاطب المارة بابتسامة ( ساعدني يا أخ...)...بعضهم يتفحصها بإمعان من الأعلى إلى الأسفل بعين شهوانية أو بنظرة بذيئة، وبعضهم يشيح عنها، وبعضهم يضع في يدها شيئاً ما. توقفتُ هناك للمراقبة بعد أن أنهيت عملي في إحد المراكز الاجتماعية القريبة. ومنهن من يقف في مدخل محطات القطار في ساعات الازدحام.
*
لماذا تتسول امرأة شابة تستلم من الحكومة مساعدات اجتماعية مادية تكفي للحد الأدنى من المعيشة؟! فهناك بالإضافة إلى الدخل الشهري المحدود للأولاد بالطبع، بالإضافة إلى مساعدات من مؤسسات خيرية مثل : بنك الطعام الذي يعطي بعض المخصصات الغذائية المجانية لكل فرد- مرة في الأسبوع- يأتي إليهم ويطلب العون لأن دخله( دخلها ) لا يكفي. وذلك يتضمن الخبز الرز والسكر والمعلبات، وأحياناً بعض الخضار والفاكهة والحلويات والحليب...والخ! والسؤال: لماذا يتسول الرجل أو المرأة القادرة على العمل؟ وهل يوجد ما يكفي من الأعمال لكل هذا الشعب الذي لا يجيد اللغة ولا كفاءات علمية ومهنية لديه(لديها)؟
*
هناك شرائح متفرقة في تورنتو من المشردين الذين بلا مأوى والذين ينامون في الشوارع ، وبعضهم يموت في أيام البرد الشديد. هناك آراء تقول إن الدخل الذي تعطيه الحكومة لهم يصرف على المخدرات والكحول، وهناك آراء تقول: إن هذه الشريحة من الاتكاليين والكسالى والأشخاص لا يريدون العمل، ولا يرغبون بالالتزام بمكان معين وله ضوابط. وهناك نساء يافعات شقراوات من كندا أو أوروبا أو العرق الأبيض يجلسن أيضاً في الشارع للتسول والحصول على بعض المال وبطرق لا تليق بالإنسانية الكريمة.
*
يحدث أن تمشي في الشارع فيبتسم لك المتسول ويدعو الله أن يكون نهارك جميلاً. بعضهم لطيف ويصطحب معه كلباً . يكفي أن يكون عندك كلب كي يتوقف المارة للتعاطف وإلقاء التحية والتودد لك وللكلب، وحينها يكون نصيبك من الدولارت جيداً.
متسولة لا تقبل أقل من 10 دولارات : هذه امرأة تمارس التسول كمهنة يومية، أراها أحياناً تستقل الباص منذ الصباح كي تذهب إلى داون تاون تورنتو وهناك تمارس مهنتها. تحمل حقيبة وقهوة وتبتسم وهي تطلب ثمن وجبة طعام أو أجرة الباص من أي كان. أميزها من شعرها الطويل الأبيض الذي تربطه إلى الخلف، وجاكيتها الأخضر الذي يحمل زيوتاً وأوساخاً لها رائحة.
كنت ذاهبة إلى عملي، وفيما كنت انتظر أن تتغير الإشارة وتصبح خضراء كي أقطع الشارع في 10 ثوانٍ، توقف سائق الباص كي أعبر. حين صعدت الباص، امتعضت المرأة المتسولة بصوت مسموع: لا يجوز هذا يا سائق الباص، لقد تأخرنا؟
انطلق الباص. وبدأت عملها في أول مترو يتجه إلى قعر المدينة. حدث ونحن نعود مساء من العمل، سمعت تلك المرأة تتبادل الحديث مع شلَّة من أصحاب المهنة، كانت تقول: لقد وصلت إلى الستين من العمر وتعبت من هذا العمل. لم يعد التسول سهلاً في هذه المدينة وخاصة في الشتاء ومع التقدم في العمر. لقد صارت المنافسة شديدة في السنوات الأخيرة. امرأة متسولة استوقفتني وطلبت نقوداً. قالت: أنا حامل، وجائعة وأريد طعاماً من فضلك؟
شعرتُ بالأسى ومددت يدي إلى حقيبتي كي أعطيها شيئاً ما، فسمعتها تقول: وجبة صندويشة دجاج ثمنها 10 دولارات.
*
الحياة هنا ليست نزهة للعاطلين عن كل شي. أما الاعتقاد بفكرة أن الدولارات في كندا والغرب معلقة على الأشجار وكلما داعبتها الريح تسقط حفنة من الدولارات في حضن اللاجئ والمهاجر، فتلك أسطورة قديمة فقدت بريقها على أرض الواقع. هل ارتفع عدد المتسولات، بعد موجات اللجوء الأخيرة إلى كندا؟
نعم ارتفع وللأسف ولوحظ بينهن سوريات، وغجريات من أوروبا ومدمنات كحول ومخدرات. وللأسف لقد شاركت دولة كندا في الإنفاق على حروب الآخرين خارج كندا وذلك أنهك ميزانية الدولة وساد الفقر والغلاء والطبقة الأفقر هي التي تدفع الثمن.
*
متسول يطلب مني أن أعود إلى بلدي لأنه أبيض كندي
كنت مرات في زيارة مطعم عربي لأصدقاء لي، وهناك يحضر رجل يتسول نهاراً ويأتي ليشرب في فترات الاستراحة، وواضح أن لديه اختلال عقلي. حين تكلم معي ولم أعره انتباهاً ، صرخ بي أن أرجع إلى بلدي، وقال: هذا بلده وهو الذي يدفع الضرائب ونحن نقتات على حسابه. نظرت إليه باحتقار ولم أجب...وحين ارتفع صوته أكثر، طرده صاحب المطعم.
لم أستطع أن أقول له، بلدي مسروقة ومكلومة وممزقة وكندا بيتي ومكاني شئتَ أم أبيت.